زياد محمد السعدون يكتب :التعليم في العراق واقع مؤلم
العراق أول حضارة ولدت قبل الاف السنين ..عندما نقرأ في كتب التاريخ نجد ان سكان وادي الرافدين أول من سجل تاريخهم فهمَ اول بلد اخترع الكتابة على الرقم الطينية وكتبوا بأقلام البردي وعندما نتأمل نصوص مسلّة حمورابي وما وضع فيها من قوانين لتنظيم حال البلاد نقف امامها بدهشة واستغراب لحُبكة تلك النصوص وقوة صياغتها فكأن من وضعها فقيه دستوري او عالم بالقانون.
ومع اهتمام العراقيون بالعلم توسع نفوذهم ووسعوا سيطرتهم على بقاع الارض حتى كان ملك العراق في العهد القديم يسمى ملك الجهات الأربع.
وبعلمهم بنوا الجنائن المعلقة التي كانت من عجائب الدنيا السبع التي حيّرت العالم في دقة صناعتها وابداعها.
وعلى الرغم من عدم حصول الام والأب على شهادات دراسية وربما لم يعرفوا القراءة والكتابة الّا انهم كانوا حريصون اشد الحرص على تعليم أبنائهم وبذل كل ما يملكوه رغم فقر حالهم لإيصال أولادهم إلى المدارس والجامعات لينهلوا من علومها المختلفة وكانت لعصى المعلم المصنوعة من الخيزران والمنقوعة بالماء لأيام عديدة الفضل في إنشاء أجيال كانت سبباً رئيساً في بناء دولة العراق في العصر الحديث وقد كانت العلاقة بين الطالب والمعلم علاقة الأب بأبنه الذي يقوّمه بالتأديب والضرب إذا استلزم الأمر من أجل مصلحته، وكان للعصى الفضل في حفظ جدول الضرب واجزاء من القرآن الكريم وتعلّم الحروف والقراءة والكتابة واحترام الاخرين وزرع قيم الأخلاق والتربية في نفس الطالب منذ نعومة اضفاره ،
وكان المعلّم لا يلام على عقابه بل يُشجع من قبل الأهل لأن المعلم دائماً على حق..
ورغم ندرة وصول الطاقة الكهربائية لجميع المدن أو الأحياء وسوء الطرق المؤدية الى المدرسة واقتصار ملابس الطالب على كسوه واحدة في الشتاء وأخرى للصيف وعدم توفر مصروف الجيب في أغلب أيام السنة إلّا أن الطلاب وذويهم كانوا أكثر حرصاً على الدراسة والمنافسة الشريفة من أجل التفوق والحصول على المراتب الأولى فيها.
واستمر حال التعليم في النهوض وظهر في الستينات والسبعينات الشعراء والكُتاب والنقاد والأطباء والمهندسون وغيرهم من الكفاءات الذين كانت بصمتهم واضحة وشاخصه في تاريخ العراق الحديث من خلال أعمالهم وكتبهم ومؤلفاتهم أو تخريجهم لآلاف الطلاب في المعاهد والجامعات وكانوا سبباً في نهضة العراق الحديث وكانت بغداد مناراً للعلم والعلماء وخير ما وصف به ذلك الزمن مقولة (مصر تكتب ولبنان تطبع وبغداد تقرأ) فقد كان العراقي قارئاَ نهماً، يُفضل شراء الكتب والمجلات على شراء الملابس او الحاجات الكمالية وغير الضرورية.
وكانت المقاهي مقاماً للكتاب والشعراء يتبادلون فيها قصصهم ورواياتهم ويتدارسون أحوال البلد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وظهر في تلك الفترة خيرة العلماء والأدباء في شتى ميادين العلم والمعرفة وتوسع في ذلك الزمن الجميل الجامعات والمدارس الرصينة بعلمها حتى إن الطالب العراقي كان عندما يُبتعث إلى خارج العراق لإكمال دراسته كان يحصل دائماً على المراتب الأولى عربياً وعالمياً.
وبدخول العراق حربه في ثمانيات القرن الماضي بدأ مستوى التعليم بالتوقف والسير ببطء شديد نحو تطوير مؤسساته التربوية والبحث العلمي بسبب الإنفاق الكبير على الحرب.
ورغم ذلك كان هناك ما يسمى (بالانسيابية) في الصف الثالث المتوسط التي لا تسمح لأي طالب بالذهاب إلى الدراسة الاعدادية إلّا بمعدل لا يقل عن ٦٥% وبذلك ضمنت الدراسة الإعدادية بفروعها العلمي والادبي انه لا يصل إليها إلّا من كان مستواه العلمي فوق تلك الدرجة ورغم ذلك كان هناك مجالات لمن لا يحصل على هذا المعدل الذي يؤهله للدراسة الإعدادية بالذهاب إلى اعداديات ( الصناعة والتجارة والزراعة ) التي كان لها الفضل الأكبر في تخريج طلاب اسهموا في رفد الصناعة والزراعة والتجارة بكفاءات وكانوا يمثلون الطبقة العلمية الوسطى والمساندة لشهادة البكالوريوس في الدوائر، إضافة إلى رفد القطاع الخاص بأعداد كبيرة من الصناعيين في مجالات الكهرباء الميكانيك والتجارة والخراطة وغيرها والذين اسهموا في فتح المعامل والمدن الصناعية في البلاد ووفروا فرص عمل كبيرة من خلال عملهم في القطاع الخاص.
وبعد احداث عام ١٩٩٠ وما صاحبها من حصار اقتصادي الذي كان طلقة الرحمة على العلم في العراق وخاصة بعد انهيار قيمة الدينار العراقي وقلة راتب المعلم والمدرس الذي كان لا يستطيع به شراء ملابس له او لعائلته ومن هنا بدأت المنظومة التربوية بالانهيار حتى اصبح في كثير من الأحيان لا يستطيع بها المعلم القيام بواجبه العلمي تجاه طلابه بسبب خجله امامهم من ملبسه او رؤية طلابه له وهو يعمل بأعمال لا تليق به بعد دوام المدرسة ومع ذلك ورغم كل تلك الظروف القاسية حافظ فيها أغلب الكوادر التدريسية على منظومة الأخلاق والتعليم وحسب استطاعتهم.
وبعد عام ٢٠٠٣ وإلغاء انسيابية الدراسة الإعدادية والتي غُلقت بسببها اعداديات الدراسة المهنية والتي كانت ترفد الدوائر والقطاع الخاص بالكوادر الوسطى وكذلك انتشار الجامعات الأهلية والمسائية التي هدف اغلبها المال دون رصانة التعليم.
وظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي يسيء أكثر الناس استخدامها كل هذه العوامل اثرت وبشكل كبير الى تفشي الأمية بشكل مخيف وكأن الأمر مدروس ومخطط له في انحدار مستوى التعليم في العراق والذي كان آخر نتائجه خروج جامعات العراق من التصنيف العالمي بعد أن كانت يشار لها بالبنان وخصوصاً جامعات بغداد والموصل.
وكان لمنح الطلاب امتيازات في الدرجات تصل إلى (٩) درجات على المعدل الدور الكبير في انهيار العلم فقد اوصلهم بهذه الدرجات والامتيازات إلى أماكن لا يستحقونها واخذوا مقاعد دراسية على حساب طلاب آخرين أفضل منهم في المعدلات، ولم يقتصر ذلك على الدراسات الجامعية الأولية بل تعدى ذلك إلى الدراسات العليا وما صاحبها من استثناءات للقبول في تلك الدراسات مثل العمر والمعدل لبعض الشرائح التي لا تستحق الحصول الشهادة واخذوا بذلك حصة غيرهم ممن يستحقها وبجدارة.
ويناقش البرلمان الآن وضع المسمار الأخير في نعش التعليم في العراق بتشريع قانون معادلة شهادتي الماجستير والدكتوراه عن بعد وبذلك يتساوى من حصل على الشهادة بعلمه ولمدة لا تقل عن (٥) خمس سنوات للدكتوراه وبين من حصلها بمبلغ لا يزيد عن (٥٠٠) دولار وهوَ جالس خلف الحاسبة ولا يفقه من العلم شيئا، فلابد من وقفة جادة امام هذا الانهيار في التعليم ووضع دراسة حقيقية لاستعادة العراق لمكانته العلمية وخاصة انه يملك عقول وكفاءات تستطيع النهوض به من جديد، لأن الدول لا تنهض إلا بالقضاء على الجهل ونشر العلم الذي ينير لها طريق المستقبل.