حجر الذهب ومنتظر الزيدي بقلم: علي العائد
ما يعني السوريين هو المقارنة بين حجر الذهب والزيدي، على اعتبار أن الكثير من العراقيين يشككون في الثورة السورية، ويشيرون إلى ‘سيرة الحرب المقارنة’ بين العراق السابق، وسوريا اللاحقة.
رمى منتظر الزيدي فردتيْ حذائه في وجه الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الابن، خلال مؤتمر صحافي بحضور رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، في بغداد في 14 ديسمبر 2008، فأصابت الأولى علم الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن تفاداها بوش. وفي 19 ديسمبر الجاري، نجح الشرطي التركي، مولود ميرت ألتنطاش، في قتل السفير الروسي في تركيا بتسع رصاصات من مسافة قريبة، من بين 11 رصاصة أطلقها في الأمسية.
ألتنطاش (ألتن طاش) تعني “حجر الذهب”، ومنتظر الزيدي صحافي عراقي ليس في اسمه ما نميّزه به عن غيره من العراقيين إلا إذا أبدعنا في رد الاسم إلى الطائفة التي ينتمي إليها رغم أنفه، ورغم أنفنا. بوش الابن علَّق على الحادثة التي اختتمت عهديه الرئاسيين الدمويين في العراق، خاصة، قبل 17 يوما على انتهاء ولايته الثانية والأخيرة “هذا أغرب شيء أتعرض له”، مستدركا “هذا من حسنات قدوم الديمقراطية إلى العراق”.
وقتها، راج تصرف الزيدي في العالم، مثل طرفة في كومة قش العولمة، من أوروبا إلى أستراليا، وأصبحت عروض القذف بالأحذية تعبيرا عن الازدراء والمهانة، لكن ليس لوقت طويل. أما حجر الذهب، وبسبب طزاجة الحادثة، فلا تزال آثار ما فعله في علم الغيب، فالتحقيق الروسي التركي يتقدم إلى لا شيء، من حادث فردي، إلى مؤامرة قادها تنظيم فتح الله غولن، بينما شددت تركيا من إجراءاتها الأمنية حول السفارات، الغربية خاصة، وأمّنت حركة السفراء.
الآراء في مواقع التواصل الاجتماعي تتردد بين أقصى اليمين، وأدنى اليسار، بين عقلاني يرى في اغتيال السفير الروسي قتلا لـ“رسول”، وهذا ما لا تقره التعاليم الدينية والقوانين الوضعية، وبين من يرى أنه حادث معزول وطفرة من أحد أحجار الذهب، على عادة الذهب في ضراوته وجماله، إلى محتفل بانتقام من ذهب لأهالي حلب في ذروة تسرب حياة الناس تحت ندف الثلج الكافر.
ذراع الزيدي كُسّرت تحت أقدام حرس بوش والمالكي، بمشاركة من صحافيين كانوا في المؤتمر، قبل أن يودع الكسير السجن في العراق الديمقراطي. أما ألتنطاش فتم قتله بعد الحادثة مباشرة من قبل الشرطة التركية، حاملا معه سر مسدسه الذي لم يفرغ بعد إيداع تسع رصاصات في جسد السفير أندريه كارلوف. والشرطة اضطرت للاشتباك ناريا مع رجل الذهب الغاضب فقتلت معه سرا لا يشبه قبلة الوداع التي أرسلها منتظر الزيدي لبوش الابن.
سر قتل ألتنطاش سيكون أهم من سر إقدامه على فعلته، بعد أن أعلنها بنفسه، ودون وجود ما يدعو للتشكيك في كلامه. لكن المعارضة التركية التقطت من متن الحادثة ما يفسح لها هامشا للقول “أنا موجودة”، فركزت في خطابها على النتائج التي جلبتها “أسلمة” المجتمع التركي بأنامل حزب العدالة والتنمية الحاكم، وزعيمه التاريخي، رجب طيب أردوغان، منذ العام 2002.
تبقى في مسدس حجر الذهب سبع رصاصات، أو ست، حين قرر الانسحاب من مسرح الجريمة (مخزن مسدس “تشاك” التركي الصنع يتسع لـ18 رصاصة + 1)، ما يعني أن الشرطة لم تكن مضطرة تماما لقتله، إلا إذا كان يمتلك مخازن احتياطية للمسدس يُمكن أن تشكل خطرا على الشرطة. ما يعني السوريين، الذين تأثروا عاطفيا بالحادثة، سلبا وإيجابا، هو المقارنة بين حجر الذهب والزيدي، على اعتبار أن الكثير من العراقيين يشككون في الثورة السورية، ويشيرون إلى “سيرة الحرب المقارنة” بين العراق السابق، وسوريا اللاحقة. فبالرغم من إقرارهم بأن صدام حسين لا يختلف عن بشار الأسد في الدكتاتورية، هنالك فئة تتشبث بالمقاومة والممانعة، شأن اليسار الدنيء في أوروبا وتونس والمغرب العربي.
منتظر الزيدي أيد النظام الأسدي علنا، بظهوره في تجمعات ضد الثورة، في حلب وجبلة، عام 2012، والتسجيلات موجودة على يوتيوب، مشيرا في كلامه إلى دعم إصلاحات بشار الأسد، وأن سوريا تعد آخر القلاع العربية، وسقوطها يعني سقوط الأمة العربية، وأن ما يجري في سوريا ما هو إلا توطئة لسايكس بيكو جديد يراد منه تغيير الخارطة السياسية. وهاجم الزيدي في تسجيلات أخرى اللاجئين السوريين في تركيا، واتهمهم ببيع سوريا بحفنة من الدولارات.
الدولارات التي اشترت الثورة السورية، بحسب الزيدي، ولا نعرف إن كان تغير رأيه بعد كل تلك السنوات، لا يوجد ما يدل على أنها اشترت حجر الذهب، فالرجل الأنيق، حليق الذقن، أعلن أنه ملتزم بوصية النبي في الجهاد، وأن قاتلي وظالمي سكان حلب لن يعرفوا الأمان إلا إذا عاد الأمان إلى الشهباء. الشرطة التركية قتلت الرجل، دون أن نعرف يقينا من سيتابع وصية حجر الذهب ويحمي حلب من الظلم الروسي. بروباغندا أردوغان استغلت ظرفية مقتل الرجل الذهبي لتعاود اتهام الدولة العميقة بمحاولة تعكير صفو العلاقات بين روسيا وتركيا المعنيتين، الآن ومعا، بتخفيف آلام المعذبين في حلب.
على المستوى الرسمي، العلاقات هادئة بين بوتين وأردوغان، ولا مؤشرات على أن حربا عالمية ثالثة أشعلها ألتنطاش، قبل أن يموت. فالحرب العالمية الأولى أشعلتها رصاصتان فقط أطلقهما الطالب الصربي غافريلو برينسيب (القاصر حسب مقاييس ذلك الزمان مع 19 عاما). تلك الحرب قتلت 16 مليون إنسان، وجرحت وشوّهت 21 مليونا آخرين.
رصاصتا برينسيب قتلتا ولي عهد النمسا فرانز فرديناند، وزوجته غير النبيلة، صوفي، في 28 يونيو 1914، وبعد شهر تماما من الاغتيال، أعلنت الإمبراطورية النمساوية المجرية الحرب على صربيا، فأيدت ألمانيا صربيا بغزو بلجيكا ولوكسمبورغ، لتعلن بريطانيا الحرب على ألمانيا، وبعد ثلاثة أشهر انضمت الدولة العثمانية إلى القتال.
لحسن الحظ، أو سوئه، أن السفير القتيل ليس في حجم ولي عهد النمسا لنبرّر قيام حرب عالمية ثالثة، على الرغم من أن التاريخ القريب، في ما بين الحربين العالميتين، سجل نشوب حرب بسبب مباراة كرة قدم في تصفيات كأس العالم 1970 قبل إقامتها في المكسيك، بين هندوراس والسلفادور، على خلفية ديموغرافية، زراعية اقتصادية، بين البلدين الجارين.
حذاء منتظر الزيدي ليس من عيار 9 مم. أما مسدس حجر الذهب فتركي الصنع ومن عيار 9 مم، شأن مسدس الصربي برينسيب، لكن الأخير بلجيكي مستورد.
في حالة الشاب الصربي، كان حطب أوروبا جاهزا للاشتعال حتى برصاصتيْ مسدس بلجيكي نصف أوتوماتيكي. أما حطب تركيا وروسيا المبلل بثلج حلب هذه الأيام، فيبدو عصيّا على الاشتعال، حتى لو غمسناه بنفط روسيا وغازها. يبقى منتظر الزيدي الذي “برَّد قلوبنا” لأيام وشهور وقتها، دون أن يبرد قلب العراق، والعالم العربي، لأن الأحذية، ببساطة، لا تبرّد القلوب.
كاتب وصحافي سوري
علي العائد