فواز الطيب يكتب:وقفة سوسيولوجية مع علي الوردي
علي الوردي (1913- 1995) لا يكفّ في كتاباته عن الإثارة والتحرش في تابوات مؤسسات الدين والعشيرة والسلطة ، يقتحم المناطق الممنوعة في التفكير، والذي يتخطى مديات السقف المتعارف للرأي .
الوردي كاتب يتقن مهارةً إنشائية ينفرد بها، فهو يكتب فهماً سوسيولوجياً وتفسيراً أنثربولوجياً وتحليلًا سيكولوجياً لمختلف الظواهر في المجتمع العراقي بأسلوب شعبي مباشر، يفهمه كل الناس، لما يسوقه من أمثال وقصص وفلكلور، بلغة لا تخلو من تهكم وسخرية لاذعة أحياناً ، وكأنه حكواتي يتحدث في مقهى قديم يدمن رواده الإصغاء لقصص الحكواتيين .
العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي يسيطر فيه قانونان، قانون عشائري وقانون مدني، وبين هذين يترنح العراق مزدوجاً لا يدري إلى أين يتجه، أو هو بتعبير الوردي “يرقص رقصة عشائرية ويغني أغاني مدنية ، وخلاصة الأمر نشاز” ، ويضيف بأن ، ” الشخصية العراقية ازدواجية تحمل قيم متناقضة هي قيم البداوة وقيم الحضارة ، ولـجغرافية العراق أثر في تكوين الشخصية العراقية فهو بلد يسمح ببناء حضارة بسبب النهرين ولكن قربه من الصحراء العربية جعل منه عرضة لهجرات كبيرة وكثيرة عبر التاريخ آخرها قبل 250 سنة تقريباً ” . ” إن الشعب العراقي منشق على نفسه وفيه من الصراع القبلي والطائفي والقومي أكثر مما في أي شعب عربي آخر باستثناء لبنان ” .
وليس هناك طريقة لعلاج هذا الإنشقاق أجدى من تطبيق النظام الديمقراطي فيه، حيث يتاح لكل فئة منه أن تشارك في الحكم حسب نسبتها العددية . ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية، وهذا هو أوان الاعتبار ، فهل من يسمع؟! .
ويصف علي الوردي العراق بالبوتقة لصهر البدو المهاجرين ودمجهم بالسكان الذين سبقوهم بالأستقرار والتحضر، فتنشئ لديهم قيمتان : قيمة حضرية وقيمة بدوية ، فالعراقي ينادي بقيم الكرامة والغلبة ولكن حياته تجبره على الانصياع لقيم التحضر.
ويؤكد ، أن التناقض موجود في كل نفس بشرية ولكنه في النفس العراقية أقوى وأوضح لأن قيم البداوة والزراعة قد إزدوجتا في العراق منذ أقدم العصور.
ان فكرة ومضمون الازدواجية التي رفعها الوردي كشعار او كمبضع لتشريح جثة الشخصية الفردية العراقية، هي فكرة قريبة بدرجة ما لمصطلح ( التقيّة ) فالتقية عندما نريد الوصول الى مضمونها الفكري هي نفس فكرة الازدواجية ومضمونها، في حال يؤمن الفرد والمجتمع بقوة بفكرة الايمان والخير وحب الصدق والتطلع الى العدالة، ولكنّ دناءة المجتمع وظروفه السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية الظالمة والقاسية هي التي تفرض معادلتها سلوكيا على الفرد وتضطرّه للعيش بحياة اخرى غير الذي يؤمن بها هذا الفرد او هذا المجتمع، سواء لدفع الضرر كما يدعون، أو لنيل المغانم والمكاسب وتمرير الأكاذيب.
” ان العراقي سامحه الله أكثر من غيره هياما بالمثل العليا ودعوة اليها في خطاباته وكتاباته، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس انحرافاً عن هذه المثل في واقع حياته” و “أنه أقل الناس تمسكاً بالدين، وأكثرهم انغماساً في النزاع بين المذاهب الدينية، فتراه ملحداً من ناحية وطائفياً من ناحية أخرى”.
وينبّه الوردي إلى أن العراقي بهذه الصفات ” ليس منافقاً أو مرائياً كما يحب البعض أن يسمه بذلك، بل هو في الواقع ذو شخصيتين، وهو إذ يعمل بإحدى شخصيتيه ينسى ما فعل آنفا بالشخصية الأخرى، فهو إذ يدعو إلى المثل العليا أو المباديء السامية، مخلّص فيما يقول، جاد فيما يدّعي، أما إذا بدر منه بعدئذٍ عكس ذلك، فمردّه إلى ظهور نفس أخرى فيه لا تدري ماذا قالت النفس الأولى وماذا فعلت “.
ويعترف الوردي بكل أريحية ويقول ” واني وإن كنت غير واثق من نتيجة هذه الدراسات ، ولكني أجد كثيراً من القرائن تؤيدني فيما أذهب اليه ” !! .