حسام السراي يكتب:رمز الجيل الجديد ساهم في بلورة الهوية الوطنية مع زها حديد وكاظم الساهر
لعلها أيّام حزن كبيرة ما برحت تلف المجتمع العراقي، منذ إعلان وفاة الكابتن أحمد راضي إثر مضاعفات إصابته بفيروس كورونا. آخر ما سجّل هذا الرجل المحبوب هدفاً قاتلاً في مرمى الحياة العراقية المثقلة بتاريخ من انهيارات وفقدانات، كثيراً ما كان وجود أحمد فيها عاملاً لصناعة الفرح وتأكيد تفوّق الإنسان العراقي الملتاع، صاحب الذاكرة الطويلة مع الحروب والدم.
إنّه حزن عميم أشاعه موت هذا اللاعب الدولي (1964-2020)، شمل حتى الأجيال الجديدة التي لم تعايش نجوميته، غير ربّات البيوت وعائلات عراقية عّدة كدّرها هذا الخبر. في التاريخ الشخصي ما بعد 2003، أربعة أحزان كبيرة كسرت الروح وأفجعتها، الأوّل وفاة جدتي ومشهد دفنها في مقبرة وادي السلام 2004، الثاني تفجير الكرادة الدموي 2016، والثالث قتل شباب التظاهرات مطلع تشرين الأول 2019، ومن ثمّ موت أحمد راضي، الذي أقول عنه بلا خجل إنه أبكاني لأيام مضت وكأنّ شيئاً من ذاتي ودواخلي قد انتُزع حقّاً.
أسطورة عراقية
قصة وصول الراحل إلى القائمة الأساسية للمنتخب الوطني بعمر مبكر (17 سنة)، أعطته مكانة وشهرة مختلفتَيْن، ليشقّ طريقه نجماً ولاعباً متميّزاً صاحب ابتسامة لا تفارق وجهه وكاريزما لشخصية تمتلك صفات القيادة في مجالها.
نجح أحمد بما كان يصنعه من فرح وانتصارات مع زملائه، في أن يكون مثار إعجاب العائلات العراقية وحديثاً دائماً للفتيات بما له من وسامة وحضور لشاب صاعد تلاحقه الأضواء. هذا الكفاح الذي انطلق من مركز شباب اليرموك وساحات حيّ العامل، مع ما لديه من موهبة فطرية، أخذا بيده إلى طريق النجومية التي وُفّق فيها كواحد من أفضل الهدّافين في تاريخ العراق والعرب وآسيا، وربّما أكثرهم تألّقاً، تحديداً بين منتصف العقد الثمانيني وحتى نهايات العقد التسعيني.
من الدوري المحلي إلى منافسات كأس الخليج وكأس العرب، وصولاً إلى وجوده في كأس العالم 1986، ليكون النجم الذي يتابع الجمهور أخباره وينبهر بأهدافه. وإذا كانت الأسطورة في شكل من أشكالها هي بطولة تحقّق أفعالاً غير تقليدية وخارقة تستأهل الفخر، فإنّ أحمد صنع أسطورته الخاصة بما لديه من قدرات وطموح واعتبار داخل المستطيل الأخضر وخارجه.
أيقونة الشعب الزورائي
كان نادي الزوراء، الحاضنة الأنسب للاعب بغدادي مثل أحمد راضي، شاب نشأ في كرخ بغداد. في مظهره، ما يستدلّ عليه من روح مرحة وخُلق وتربية لعائلة حرصت على نجاح أبنائها وعدم تركهم للدراسة. في نادي النوارس بمقره في جانب الكرخ أيضاً والقريب من نهر دجلة، ترسّخ اسمه بوصفه لاعباً موهوباً، انتقل إلى فريق شباب النادي سريعاً، بعد انطلاقتين الأولى مع مركز شباب اليرموك والثانية مع منتخب الناشئين، فنادي الشرطة.
في الزوراء وما بعد مشاركة راضي في كأس العالم 1986، تحوّل إلى شخصية عامة ذاع صيتها بين الناس، وكانت فترته الذهبية مع نادي الزوراء ممهّدة لأن يكون مثالاً للشاب الناجح وحتى قدوة لطلاب جامعيين دخلوا كليات الطب والهندسة والآداب، إلّا أنّ عينهم خارج الحرم الجامعي على خطوات نجم الزوراء.
شيئاً فشيئاً، مثّل وجود أحمد فاتحةً لأجيال أتت بعده بعقد من طلاب جامعيين وأبناء طبقة وسطى لدخول عالم كرة القدم، بالأخصّ عبر بوابة نادي الزوراء. نتذكّر هنا اللاعبَيْن أحمد عبد الجبار (كان طالباً في الجامعة التكنولوجية) واللاعب غيث عبد الغني (طالب حينها في كلية الهندسة بجامعة بغداد). ومع هذا التحوّل الذي بلغ ذروته في عقد التسعينيات، حينما أُعجب شبان كُثُر بشخصية أحمد راضي، تربّى في دواخل فتيان ومراهقين كُثُر “أحمد راضي صغير” يقلّدونه في الرغبة بالتهديف واقتناص فرص الفوز على الخصم. طلاب إعداديات تسرّبوا من مدارسهم إلى الساحات المجاورة وتمنّى هذا أو ذاك أن يتفنّن في لعب كرة القدم ولسان حاله يقول: “سجّلتُ هدفاً بطريقة أحمد راضي”.
نعم، للزوراء جمهور متعدّد، أزعم أنّ طلاب الجامعات ليسوا أقلّيّة فيه، إنْ لم يكونوا هم الأكثرية، كان أحمد في قلب هذه الصورة الرياضية الباهرة بضرباته وكراته الرأسية التي لا تُنسى. فتى الزوراء ونجمه الذي كثيراً ما أربك دفاعات الغريم التقليدي نادي “القوة الجوية”، ولم يكن أحد يتخيّل أن جمهور فريقه الخصم سيكون أول المستقبلين بالبكاء لجثمانه في الطريق إلى مقبرة الكرخ. هي إذاً شخصية أحمد المبتهج دائماً التي أشعلت الحزن في ربوع العراق وسيّدت الصمت على الجميع.
لكلّ نادٍ جماهيري في العراق خصوصية ومآثر جماهيرية وصيحات على المدرجات، وللزوراء مشجعون استوعبوا مثل كلّ البشر فكرة الوجود والتعبير عن انتمائهم الكروي على مواقع التواصل، بتأسيس غروب على “فيسبوك” باسم “الأمة الزورائية”، أوّل ما يتبادر إلى الذهن عند قراءة هذه التسمية، إن هذه الأمة هي حصيلة إعجاب مجموعة من العراقيين بنادٍ، من أهم أيقوناته أحمد راضي، الذي رضي عنه الزورائيون وأمسى ذات يوم علامة من علامات جلب السعادة للعراقيين في أحلك الظروف.
مع الساهر وزها حديد
في العقد التسعيني ومع الانكسار الاجتماعي الذي حصل بفرض الحصار الاقتصادي وجمود الحياة العراقية بين سلطة جائرة أهلكت البلد بالحروب ومجتمع معزول يقاسي من ضريبتين، عيشه تحت سطوة البعث، ومن ثمّ إنهاك العالم الدولي له بعد حرب الخليج الثانية 1990، كان أحمد راضي وقبله كاظم الساهر أنموذجين لشباب العراق، فيهما وجد العراقي مثابَتَيْ نجاح وتأكيد على قدرة العراقي على الإبداع والإنتاج والتفرّد، أحمد بقدمه ورأسه وكاظم بصوته وألحانه على العود.
بقي اسما “أبي هيا” والساهر، مؤثّرَيْن بين العراقيين إلى ما بعد نيسان 2003، رمزان تُستعاد سيرتهما وتجربتهما كلّما اصطدم العراقي بمحطة من محطات الفشل في بناء دولة مقتدرة وإنسان ينطلق من بلده نحو تحقيق رفعة للعراق في محيط عربي أو أبعد من ذلك.
أضيف إلى الرمزين اسم ثالث، هو زها حديد، التي أصبحت متقدّمة أكثر على الاثنين لجهة أن الإنسان العراقي استفزّه إبداع هذه المرأة في العالم، بينما تحاصره خرائب المدن وتعدّيات الأحزاب وأطياف مجتمعية على المساحات الخضراء وعمران الأحياء والمحافظات ككل.
أحمد وكاظم، رمزان لنجاح محلي صار مفخرة في العالم العربي وما عداه، وها هي عواصم العرب والعالم تنعى نجم العراق وتتأسّى عليه.
هوية وطنية
بِمَ اختلف راضي عن غيره من اللاعبين؟ خصوصاً الأجيال التي أتت بعده في كرة القدم العراقية. إجادة واضحة في الكلام والتعبير لا يتقنها كثيرون من اللاعبين، ومظهر أنيق وإطلالات بدا فيها متحضّراً، ليس آخرها ظهوره مع ابنته هيا واعتزازه بها بنتاً وطبيبة. هو ابن الحصار، عايش الأزمان العراقية الصعبة وسار في حقل ألغامها مثل غالبية أبناء الداخل العراقي، ومهندس بثّ الطاقة الإيجابية في نفوس مَن هم على قيد الوجود في خريطة البلاد، بغداديون، جنوبيون، كرد، موصليون، أنباريون…
كابتن الزوراء، أحد أكبر الذين ثَبُتت مكانتهم في ذاكرة العراق مجرّداً من أيّ انتماءات فرعية، ترى الشرطي المرابط في المنصور أو الكرادة يوقفه ليلتقط معه الصور، والعامل الذي ترك مدينته الناصرية إلى بغداد بحثاً عن عمل، يتابع- على اليوتيوب- لقاءاته الجديدة في ساعات الراحة من يوم شاقّ.
في اعترافه بخطأ دخول العملية السياسية بعد 2003، تصالح مع ذاته وعراقيته، مترفّعاً على ما يشوب كونه ممثّلاً لهوية وطنية في محافل خارجية.
واحدةٌ من صفات العراقيين الذين نالوا أضواء وشهرة، هي الخجل والكلام الهادئ الممزوج بملامح فيها لمحة حزن، وراضي معبّر عن ذلك. أخذ من اللهجة العراقية مفرداتها الجميلة، ومنها كلمة “حبيبي” الدارجة في مجتمعنا، كان يقابل الذين يعرفهم أو يلتقيهم للمرّة الأولى بلازمة ارتبطت به هي “حبيبي الغالي”، فيها استدلال على العراقي المهذّب الذي يفخر به مواطنو بلده. فجيعة يوم الأحد الماضي برحيله، حملت معها برهاناً عن كمّ المحبة التي يكنّها العراقيون والعرب لهذا النجم الذي أسكته الفيروس عن مناداة الآخرين بلازمته المعهودة.
في واحدة من المواقف المعروفة في ساحة التحرير العام الماضي، أحمد محاطٌ بجمع غفير من شباب تشرين وهم ينادونه فرحين بوجوده بينهم، وهو يردّ عليهم بأنّ “كلّ إنجاز حقّقناه للعراق في ما سبق، لا يرتقي إلى ما تفعلونه الآن”. من التحرير، أراد “أبو هيا” أن يعلن أنّه مع هؤلاء المتظاهرين، متطهّراً من مثالب أيّ عمل برلماني سابق يعيبه عليه المتصيّدون. من الساحة ذاتها التي وقف فيها مبتسماً، يرتفع نعش رمزي محمول على أكتاف المعتصمين هناك، هكذا يعود أحمد ثانية، مصطفاً إلى الأبد مع الباحثين عن حقوقهم وأحلامهم.
أيام العلاج
يموت أسطورة الزوراء والعراق، فاتحاً أبواب الهلع على العراقيين، غياب صادم نشر الذهول بين أقطاب المجتمع، سواء المصدّقين بحقيقة كورونا أو المكذّبين لها على أنّها “مؤامرة كونية تشرف عليها استخبارات غربية”. يموت أحمد بالإنابة عن العراقيين، ليقول لهم “أنا نجمكم مُتُّ بهذه السهولة، وبلا رعاية مطلوبة لعراقي يُفترض أنّه يستحق التقدير والاهتمام، لا أن يبحث عن حبة “بنادول” ولا يجدها في المستشفى بالسرعة اللازمة.
في غمرة ما حصل، يبادر مدير المستشفى الذي رقد فيه بتصوير فيديو يدافع فيه عن نفسه ويظهر معه الراحل عنوة، مردّداً بأسلوب مقزّز: “حمودي يكَولون إحنه ما نهتم بيك”، بينما المريض مقيّد بجهاز الأوكسجين ويعاني صعوبة التنفس لا الحديث بنحو طبيعي. حالة الطبيب هذه التي لا تُعمَّم إزاء جهود كبيرة تبذلها الفرق الطبية، اختصار وانكشاف جليّ للفشل في بناء دولة، تخدم الناس وتوفّر لهم أقلّ ما يحتاجون إليه. وفي هذه الصدمة الخاطفة، ينبش البعض في أصل الفقيد، سائلاً عن طائفته ومَن يوالي في عراق المصائب، ويتعالى آخرون من ضحايا الأمس على معنى أن ينحت الشخص في شبابه النجاح خطوة بعد أخرى، وإن كان الاستبداد والحروب سمتَيْن لزمنه.
العبارة المألوفة التي كنّا نسمعها من المعلّق الرائد مؤيد البدري: “ممتازة أحمد راضي ضربة بديعة”، أرانا أحمد بفقده ضربة أخرى موجعة وترك لنا الحرقة عليه وهو يأخذ معه شيئاً من أرواحنا وذاكرتنا التي كانت تتّقد كلّما رأيناه في شوارع بغداد.
في موته هو وزميله علي هادي، يسجّل عصر كورونا سابقة في تعريف خسارة الأحباب بهذا النحو، تعريف يختلف عن أنواع الميتات التي نظّر لها نيتشه، صعود روح إلى السماء، نثر نبأها الوجوم على الوجوه في صباح حلّت مرارته من دون أي قرع للأجراس. “أبا هيا”، الساحر، الباسم، الأنيق، خسرناك، خسرك العراق، وبغداد تأبى أن تقول لك وداعاً، أنت ابنها الذي لن تخفُت سيرته وحكاية نجوميته.