إمبراطورية «داعش» العقارية في العراق: استثمار أمني ومالي وتلاعب بالملكيات نوزت شمدين وعمران ضاهي
اعتذر عنها العشرات من الموظفين وقبلت خولة السبعاوي المهمة التي رآها كثيرون مستحيلة. ففي ظهيرة يوم قائظ من آب (أغسطس) 2010، قصدت السيدة الأربعينية مبنى دائرة التسجيل العقاري في مدينة الموصل وبيدها حزمة كبيرة من المفاتيح. دخلت غرفة المحفوظات حيث آلاف السجلات التي توثق الملكيات العقارية، وبدأت أول يوم عمل محفوف بالأخطار في واحدة من «ملكيات» الجماعات المسلحة.
أحمد العطار كان معاوناً لخولة السبعاوي، وهو محامٍ مختصّ بالتسجيل العقاري يقيم حالياً مع زوجته وابنته في بغداد. يصف ما قامت به المديرة الجديدة آنذاك بـ «الانتحار». فطوال السنوات الأربع التي سبقت تعيينها، لم يجرؤ أحد حتى على الاقتراب من المبنى الواقع في حي الفيصلية بالساحل الأيسر من المدينة التي كانت فعلياً تحت قبضة «المجاهدين»، خصوصاً بعد اغتيال المدير السابق بالرصاص وتدفّق سيلٍ من رسائل التهديد على الموظفين تنذرهم باقتراب أجلهم.
عند زيارتها الأولى اكتشفت السبعاوي أن هناك من كان قد سبقها إلى المكان خالعاً أقفال الخزانات. كانت الملفات والسجلات مبعثرة هنا وهناك، فقررت على الفور تعيين فريق من المحققين. يقول العطار: «اكتشفنا اختفاء وثائق وحجج ملكية تخصّ 25 ألف عقار في القسم الشمالي من محافظة نينوى». ويضيف: «هذه الوثائق سرية لا يجوز إخراجها من مبنى دائرة التسجيل العقاري ولا تفتح ولا يتم الاطلاع عليها إلا بقرار قضائي».
لم يتمكن فريق التحقيق الذي شكلته السبعاوي من معرفة الجهة التي سرقت الملفات وبقي الأمر غامضاً إلى اليوم، «لكننا نجحنا في إنقاذ بقية السجلات فصوّرناها وأرسلنا نسخاً منها على أقراص مدمجة إلى وزارة العدل في بغداد وإدارة محافظة نينوى» يضيف العطار.
بأسف يتابع الموظف السابق أن نبوءته بخصوص السيدة السبعاوي قد تحققت. ففي صباح يوم الخامس عشر من شباط (فبراير) 2011، أطلق مسلحون النار على هذه المحامية التي عملت في دائرة العقارات لمدة 17 عاماً فماتت على الفور. كان الملثّمون يهرولون نحو سياراتهم وخيوط الدم تسيل من رأسها من دون أن تردّ نقطة التفتيش القريبة من منزلها في حي الوحدة شرق الموصل ولو بطلقة واحدة في الهواء. كل شيء كان محكوماً بأمر الجماعات المسلحة وتحت خدمتها.
بمقتلها أعيد إغلاق دائرة العقارات من جديد وبقيت على هذه الحال إلى أن احتل تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» المدينة في حزيران (يونيو) 2014 وسيطر على مفاصل الحياة كافة هناك بما فيها «إمبراطورية» ضخمة من العقارات بوثائقها الأصلية.
نزوح من وإلى الموصل
حادثة اغتيال السبعاوي ليست سوى أحد فصول قصة التلاعب بملفات الملكيات العقارية في نينوى. أما البداية فتعود إلى عام 2006، عام تفجير قبتي الإمامين العسكريين في سامراء واشتعال فتيل الحرب الأهلية. يروي أحمد العطار أن المدينة حينذاك شهدت موجتي نزوح باتجاهين متعاكسين: نازحون أتوا من قضاء تلعفر (غرب نينوى) إلى ضواحي الجهة اليسرى لمدينة الموصل، وآخرون قصدوا إقليم كردستان أو دولاً مجاورة هرباً من أعمال القتل والخطف والتفجيرات. «تلك الحركة من وإلى الموصل والفوضى الأمنية التي رافقتها خلقت الأجواء المناسبة لعناصر داعش، كي يستولوا على مئات المنازل ويتخذوها مقار لشبكة كبيرة من الخلايا النائمة».
يكمل رواية القصة سعيد ثابت، وهو نقيب في الشرطة المحلية يقول أن شراء المنازل أو الاستيلاء عليها بالتزوير والتلاعب كان سائداً في تلك الفترة، خصوصاً مع خلو البيوت من ساكنيها أو عرضها للبيع والإيجار بأسعار زهيدة. ويضيف: «لقد كان هدف التنظيم تأسيس بنية تحتية لحكومة الإرهاب، فحرص على أن تكون جحوره موزعة في كل مكان وهدد مخاتير الأحياء الذين لم يتعاونوا معه وقام بتصفية 33 منهم أسماؤهم موثقة لدينا».
خريطة عقارية للخلايا النائمة
ضابط في استخبارات الفرقة الثانية للجيش العراقي التي كانت متمركزة في الجزء الشمالي من نينوى قبل انسحابها المدوّي في صيف عام 2014، يمسك خريطة بيده ويشير إلى حزام المباني التي سكنتها خلايا نائمة تمهيداً للسيطرة العسكرية المطلقة وإعلان «دولة الخلافة».
الخريطة التي رسمها التنظيم تبدأ من المدخل الغربي للمدينة وتحديداً من حي المشاهدة و17 تموز، وتمر جنوباً بسوق المعاش واليرموك والموصل الجديدة وصولاً إلى الشرق حيث أحياء سومر ودوميز والصديق، ثم إلى أحياء الكرامة والزهراء شمالاً وصولاً إلى الحدباء، وهي إحاطة محكمة بالمدينة في مناطق شعبية يخنقها الفقر والزحام.
الطوق الذي صوّره الضابط على الخريطة كان يسمح لـ «داعش» بمراقبة ما يدخل إلى الموصل من بضائع مقبلة عبر المنفذ الغربي مع سورية أو المنفذ الشمالي مع تركيا، أو جنوباً من بغداد. ووفق هذه الخريطة العقارية تجمع عناصر التنظيم مع العتاد والسلاح طوال الأشهر الستة الأولى من 2014 مع مشاغلة مستمرة للقوات الأمنية بحرب شوارع يومية وبغطاء من التفجيرات وعمليات الاغتيال.
يتابع الضابط: «عندما حان موعد الهجوم لم يكن داعش في حاجة إلى جيش، فقد كانت هناك خلايا تنخر في جسد قيادة عمليات نينوى التي تهاوت في العاشر من حزيران 2014 وفر مقاتلوها تاركين ترسانة سلاح». ويختتم بالقول: «هذا ما حصل فعلياً، وليس كما نقلت وسائل إعلام عراقية أن بضع مئات من مقاتلي التنظيم أسقطوا الموصل».
الأقليات أول المتضررين
سعد بهنام عراقي يقيم منذ نحو عشرين عاماً في ولاية ميشيغان الأميركية، خسر بيته في حي المهندسين الراقي بالموصل عندما استولى عليه غرباء صيف عام 2012 بعقد بيع مزوّر. يقول: «حين علم أقاربي بأن الإرهابيين استملكوا منزلي التزموا الصمت ولم يجرأوا على التدخل».
يوضح بهنام أن تعطيل دائرة التسجيل العقاري مكّن عناصر التنظيم من الاستيلاء على العقارات من خلال دعاوى نقل ملكية «صورية» تنظرها محكمة البداءة وهي محكمة لا تتطلب حضور الطرفين لتثبيت العقد، بل تكتفي بتوكيل وبحضور المشتري فقط. وفي حالة منزله زور أحدهم عقد بيع وهميّ، ووجهت المحكمة إنذارات إخلاء وأصدرت قرار النقل غيابياً. يعلّق القاضي المدني أحمد عبدالله من محكمة البداءة على ما حصل مع بهنام بالقول أن لجوء الناس في ذاك الوقت إلى محكمته «كان الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامنا لتثبيت الملكية ولو أنها ليست الطريقة المثلى».
بهنام الذي ما زال يحتفظ بلهجته الموصلية رغم سنوات الغربة، يروي أن المسيحيين الذين لم يخسروا منازلهم آنذاك خسروها لاحقاً مع إعلان «دولة الخلافة» عام 2014، فرسم التنظيم على أبوابها حرف «النون» كبير بلون أحمر. ثم أضاف: «كان حرف النون يرمز إلى كلمة نصارى. أما بالنسبة إلى أولاد عمومتي فهو يرمز اليوم إلى كلمة أخرى وهي نازحون».
لا تتوافر إحصاءات رسمية عن أملاك المسيحيين المصادرة من جانب الدولة الإسلامية، لكن أنور هداية ممثل المسيحيين في مجلس محافظة نينوى يشير إلى أن منازل 120 ألف مواطن مسيحي ومئة ألف دونم زراعي في الموصل وقضاء الحمدانية وناحية برطلة وكرمليس وبلدات تلسقف وتلكيف والقوش كلها نقلت إلى «بيت مال المسلمين» وألغيت سنداتها العقارية الأصلية.
الحال ذاتها تنطبق على أملاك الشبك والتركمان التي صودرت أملاكهم بعد أن وضع على جدرانها حرف آخر وهو (الراء) أي «رافضي» وفق موظف سابق في دائرة التسجيل العقاري صادر التنظيم منزله الكائن في منطقة دوميز شرق الموصل. هذا الموظف يضيف أن التنظيم صادر أيضاً آلاف العقارات لمنتسبي الجيش والشرطة وموظفين وسياسيين ونازحين، وعمد إلى استثمار هذه العقارات كمقار له أو قام بتأجيرها وحتى بيعها.
عقارات الأقليات تمثل أرقاما صغيرة، وتبقى الكتلة الأكبر التي استحوذ عليها التنظيم هي تلك العقارات الحكومية التي تعود ملكيتها إلى بلدية الموصل والوقف السنّي والمؤسسة العسكرية، والذي سعى معدّو التحقيق إلى تقدير حجمها ومقدار الدخل الثابت الذي تدره على خزينة «داعش».
غنيمة عقارية جاهزة للاستثمار
خلال رحلة البحث عن إحصاء دقيق لحجم الكتلة العقارية في نينوى التي أدارها التنظيم في شكل مباشر وجنى منها مدخولاً ثابتاً في العامين الفائتين، حصلنا على وثائق غير منشورة تعود إلى عام 2009 وهي المعطيات الوحيدة عن البنية العقارية في المحافظة منذ سقوط نظام صدام حسين. وقد كان علينا أن نفرش خريطة إدارية كبيرة لمحافظة نينوى لكي نتتبع عليها الأرقام الواردة. تشير الوثائق التي في حوزتنا ومصدرها موظّف في مديرية إحصاء نينوى، إلى وجود 560 ألف مبنى في عموم نينوى، من بينها 340 ألفاً واقعة في البلدات والمدن الرئيسية وأكبرها الموصل. كما أن عشرين ألفاً من هذه الكتلة الضخمة هي عقارات تجارية.
يعلق المهندس «أقدم زهير» من مدينة الموصل مؤكداً أن لا تغييرات جذرية طرأت على هذه الأرقام، خصوصاً أن سوق البناء في نينوى كانت كاسدة في السنوات الأخيرة بسبب الأزمة الأمنية.
زهير الذي عمل لسنوات طويلة رئيساً للمهندسين في دوائر حكومية عدة، منها بلدية الموصل قبل أن ينتهي به المطاف نازحاً في مدينة زاخو على الحدود العراقية – التركية، يضيف أن 60 في المئة من العقارات التجارية في المدينة تملكها البلدية (نحو 12 ألف عقار) وهي بذلك تكون المالك الأكبر في الموصل التي تضم 65 حياً سكنياً وعشر أسواق شعبية واسعة مع منطقتين صناعيتين. وكانت البلدية قد أجّرت بعقود سنوية تسعة آلاف من هذه العقارات للمواطنين وشركات خاصة، والبقية كانت مشغولة من جانب دوائرها الفرعية أو من دوائر حكومية أخرى. وهنا يتابع زهير: «عندما سيطر التنظيم فعلياً على المدينة وضع اليد على واردات بلدية الموصل في مصرف الرافدين 112 وصار يتقاضى بدلات الإيجار السنوية عن هذه العقارات المستأجرة».
مئة مليون دولار استثمارات عقارية
أبو يحيى شاب في منتصف عقده الرابع من العمر يتحدّر من جنوب مدينة الموصل، عمل سابقاً موظفاً في بلديتها قبل أن ينتقل إلى «ديوان الخدمات» في «الدولة الإسلامية» بعد أن أطلق لحيته وارتدى «الزي الرسمي» المعروف بالزي الأفغاني. في لقائه مع أحد المشاركين في إنجاز التحقيق، والذي قدم نفسه مستفسراً عن عقود إيجار البلدية كان الموظف يتباهى بقدرة «الدولة الإسلامية» على إدارة موارد المدينة وتطويرها، فقال أن ديوان الخدمات يستحصل من المستأجرين بدلات الإيجار السنوية ويعرض العقارات غير المشغولة من طريق المزايدة العلنية.
ذكر الموظف الذي يكنى بأبو «يحيى» في ثلاث مرات تم اللقاء به، أن الواردات التي تحققت من الأملاك التجارية في الموصل عام 2015 بلغت (87) مليون دولار أميركي كبدلات إيجار. ولا ينشر التنظيم أي وثيقة تخص موازنات «دواوينه» لكن المبلغ المذكور قريب من تقديرات رئيس المهندسين السابق «قائم زهير» الذي احتسب متوسط إيجار العقار التجاري ثمانمئة دولار بزيادة مقدارها 25 في المئة عن عام 2013 خلال فترة إدارة الدولة العراقية.
أبو يحيى، كشف أن العقارات التي تحقق أعلى بدلات إيجار هي ساحات سيارات الأجرة في باب الطوب وباب الجسر وكراج الشمال وباب سنجار وساحات وقوف السيارات المنتشرة في عموم مناطق المدينة، فضلاً عن عربات الخضر والفواكه والورشات الصناعية في كلا المنطقتين الصناعيتين على جانبي المدينة، والعمارات التجارية في باب الطوب والسرجخانة وباب السراي ومتنزهات ومطاعم غابات الموصل.
وقال أن مبالغ جباية غرامات فورية حصلت عليها بلدية الموصل من المواطنين كانت بواقع مليار ونصف المليار دينار شهرياً (مليون وربع المليون دولار أميركي) وهي عن رمي النفايات في المناطق غير المخصصة والتجاوز على شبكات المياه والمجاري والبناء، أو إضافة على العقار من دون إجازة بلدية، ما يعني وصول 15 مليون دولار أميركي إضافية إلى خزينة «داعش» لعام 2015 من الغرامات. اهتزت لحية «أبي يحيى» الكثة وهو يفرش يديه في الهواء قائلاً: «كانت دولة المرتدين قبلنا فاسدة ومرتشية والإيجارات عرضة للسرقة والمساومة ولا غرامات تفرض على المتجاوزين. انظر الآن شوارع الموصل نظيفة، والمستأجرون يدفعون بدلات الإيجارات بمواعيدها».
مليونا دولار من الوقف السنّي
تنظيم «داعش» وجد نفسه وريثاً أيضاً لأملاك الوقف السنّي ومعظمها عقارات سكنية تبرع بها أهالي المدينة لاستثمار عائداتها في إدارة الجوامع وصرف رواتب الأئمة والخطباء والمقيمين والمؤذنين منها. وتشير الإحصاءات التي لدينا ومصدرها موظفون سابقون، إلى أن دائرة استثمار الوقف السنّي تمتلك ما يزيد عن (1600) دار سكنية مستقلة أو ضمن مساحة الجوامع والمساجد كانت تؤجرها إلى موظفي الوقف لقاء مبالغ رمزية. كما أن هناك نحو ألفي عقار تجاري بين عمارة ومحال وورشات صناعية تتبع الوقف، وهي موزعة داخل الأحياء السكنية في المدينة وسوق باب السراي – أكبر أسواق الموصل الشعبية – وباب الطوب والدواسة وشارع حلب.
خطيب جامع وموظف سابق من الوقف السنّي ما زال يقيم في الموصل ويشغل داراً سكنية من أملاك الوقف ويدفع إيجارها بانتظام، أشار إلى أن القيمة الوسطية لبدلات الإيجار الشهرية لهذه المنازل رفعها التنظيم إلى حدود الـ (75) ألف دينار شهرياً (نحو 65 دولاراً أميركياً) ما يعني أن وارداته السنوية عن مساكن الوقف السنّية فقط قد بلغت مليوناً وربع المليون دولار سنوياً. أما عقارات الوقف التجارية التي يبلغ عددها 890 عقاراً، فيقول آخرون تواصلنا معهم، إن التنظيم رفع أيضاً أسعار إيجاراتها إلى الحد الوسطي ذاته تقريباً. وبذلك تكون أملاك الوقف السنّي عموماً وفرت لـ «داعش» نحو مليوني دولار عام 2015 غطى منها رواتب خطبائه وموظفيه الذين عيّنهم في الجوامع والمساجد، ومدرسي الدورات الدينية للأطفال ضمن مشروع «أشبال الخلافة».
«داعش» يفرض كفالات عقارية
فضلاً عن الرقم الثابت المقدر بأكثر من مئة مليون دولار أميركي حصل عليها «داعش» عام 2015، من قطاع العقارات، وصلت إلى خزينته عشرات ملايين الدولارات من بدلات تضمين الأراضي الزراعية وإيجارات آلاف المنازل الخاصة المصادرة من المسيحيين والشبك والإيزيديين والموظفين والعسكريين.
من خلال جولات رصد كثيرة على مدار خمسة أشهر بدءاً من شهر نيسان (أبريل) الفائت، توصل معدو التحقيق إلى أن التنظيم قام بتأجير المساكن الفخمة التي استولى عليها في أحياء العربي والضباط والبعث والمهندسين والمجموعة والزراعي والثقافة والزهور بمبالغ تصل إلى 200 ألف دينار شهرياً (نحو 170 دولاراً أميركياً) وتنخفض قيمة الإيجار بالنسبة إلى المنازل في باقي الأحياء لتصل إلى مبالغ رمزية لا تتجاوز خمسة آلاف دينار. لكن المحصلة العامة من الواردات تزيد عما حصل عليه من عقارات بلدية الموصل والوقف السنّي مجتمعين نظرا إلى كثرة أعداد المنازل المصادرة.
لكنّ هناك مصدراً آخر للدّخل لا يقل أهمية عن المذكورة أعلاه يتمثل في «الكفالات العقارية» وهي السبب الذي أبقى «مؤيد منصور» محتجزاً مع أولاده وزوجته في الموصل من دون أن يتمكن من الالتحاق بأقاربه الموجودين في مدينة السليمانية. «لكي تغادر الموصل عليك تقديم كفالة عقارية بمعدل سند عقار واحد عن كل شخصين من العائلة» يقول منصور، ويتابع: «هذا يعني ثلاثة عقارات إذا كانت العائلة مؤلفة من ستة أشخاص».
قبل ساعات فقط من قيام «داعش» بحجب الإنترنت مطلع شهر تموز (يوليو) الماضي عن عموم مناطق نينوى، كتب لنا منصور عبر خدمة «الفايبر» قائلاً: «أنا وشقيقي لسنا موظفين ولا علاقة لنا بالدولة أو الحكومة. اعتقدنا أن بقاءنا في المدينة سيجعلنا نحتفظ بمنزلينا»، وعاد ليستدرك: «لكننا بالمقابل فقدنا حريتنا».
وفق منصور وآخرين التقيناهم يطلب التنظيم كفالة شخص يحاسب في حال عدم عودة المغادر الذي يقدم عذر العلاج في معظم الأحيان كذريعة. ويطلب مبلغ كفالة انخفض مقدارها أخيراً إلى أربعة آلاف دولار عن كل شخص، وإن لم يعد المكفول توضع إشارة حجز على سند العقار ويتم لاحقاً نقل ملكيته إلى «داعش».
يطبق إجراءات الحكومة
بعد شهرين فقط من فرار الجيش العراقي من نينوى قررت وزارة العدل العراقية إيقاف عمليات نقل الملكية وتسجيل العقارات في المحافظات التي تصفها بالسّاخنة أمنياً وهي نينوى والأنبار وديالى وصلاح الدين «حتى إن تم تسجيلها بالإكراه، فهي تعتبر باطلة ضماناً لحقوق الساكنين في هذه المناطق والأقليات» وفق بيان الوزارة الصادر آنذاك. أما «داعش» فأصدر قراراً موازياً قضى بـ «مصادرة عقارات الكفار والمرتدين».
أحمد أمين واحد من «المرتدّين» الأكثر تضرراً من هذا القرار. فقد خسر مشروعاً للدواجن هو الأكبر من نوعه في نينوى يتضمن حلقة إنتاج متكاملة على مساحة 61 دونماً (الدونم في القياسات الرسمية العراقية 2500 متر). إضافة إلى ذلك صادر التنظيم أملاكاً أخرى له وهي ثلاثة معامل علف ومجزرتا دواجن ومخزن تبريد وأربعة حقول تربية دجاج مع ستّة عقارات سكنية يملكها في مناطق متفرقة من الموصل ومحل لتسويق منتجاته في حيّ الجزائر.
كان أمين يتحدث من مكتبه البديل في مدينة بابل جنوب العراق، والتي نزح إليها وبدأ عمله فيها مجدداً بمهنته القديمة ذاتها وهي تجارة الدواجن. يقول أن كل عقاراته بيعت وقام المشترون بإجراء الكشف ودفع رسم البيع البالغ 3 في المئة من قيمة العقار وتم نقل الملكية بإصدار سند عقاري يحمل شعار «داعش» والإشارة إلى جنس العقار ومشيداته، وهي الإجراءات ذاتها تقريباً التي كانت تتخذها دائرتا التسجيل العقاري (الأيسر والأيمن) في الموصل من إقرار البيع والشراء.
بالنسبة إلى تاجر الدواجن هذا فإن المشكلة أن أملاكه بيعت أكثر من مرة. «لقد غير التنظيم من طبيعتها جاعلاً من العقار التجاري سكنياً والعكس، كما أن هناك مباني شُيّدت فوق الأراضي لا أعلم كيف سيسوّي القضاء أوضاعها». ويضيف: «سأواجه مشكلة عويصة عند خروج داعش من المدينة، إذ سنتقابل أنا وبقية المشترين عند القاضي والكل يدّعي ملكية العقارات».
الأمر ذاته تكرر مع عدد كبير من أصحاب المشاريع والمعامل المختلفة والمخازن والمحال التجارية التي نهبت أو صودرت وتناوب على شراء معداتها وموجوداتها أكثر من شخص. ففي بلدة بعشيقة وحدها كان هناك 51 معملاً، فضلاً عن عشرات من محال بيع المواد الإنشائية وقطع غيار المكائن والمشروبات والملابس، والتي نهبت بالكامل ولا يمكن استعادتها. والأمر ذاته حدث في سنجار.