د.ريان توفيق يكتب: الرأي الواحد أما آن لهذه الأحادية أن تتوقف؟!
منذ أكثر من نصف قرن والجدال في مجموعة من المسائل يطفو على السطح بين حين وآخر، فيشوش على المتلقين أفكارهم، ويعكر عليهم حياتهم، ويشككهم فيما سمعوه من ثقات علمائهم .. ومن هذه المسائل دفع القيمة في زكاة الفطر .. فمع اقتراب عيد الفطر تنهال علينا المقاطع الفيدوية عبر وسائل التواصل المختلفة التي تقول: لا يجوز دفع القيمة بل يجب دفع الحنطة أو ما شاكلها من الأقوات، وتعرض هذه المقاطع وجهة نظر أحادية للمسألة، وهي المنع دون التعرض للرأي الآخر، بل تعرضها بصورة من الجزمية القاطعة، وكأن صاحبها قد اتخذ عند الله عهدا بحقية ما يقول، وبطلان ما يقابله من آراء، وهنا يكمن الخلل.
ولست بصدد عرض الاتجاهات الفقهية وأدلتها، فقد أشبعت هذه المسألة ونظيراتها بحثا ودراسة وامتلأت بها المدونات الفقهية قديما وحديثا .. لكني أود أن أعرج على العقلية التي تنتج هذه النظرة الأحادية، وتتعاطى مع المسائل تعاطيا حرفيا دون النظر في العلة والمقصد، ودون احترام للآراء الأخرى، فإشكالية هذه العقول أنها تتعصب لما تعتقده صوابا، فهي لم تتدرب على الاختلاف، وكأنها في واد والسلف الذين يدعون تمثل أفهامهم في واد آخر، فلم يتعلموا من سيدنا عمر أو ابن عباس أو ابن مسعود رضي الله عنهم مشروعية الاختلاف، ولم يُعَلِمهم أساتذتهم أن للمكلف تقليد من شاء من الآراء الفقهية المحفوظة عن فقهاء الأمصار، ولا يجوز لأي مفت أن يمارس دور الوصاية على قناعات الناس في أخذهم بهذا الرأي أو ذاك.
وهنا أتساءل ألم يأن الأوان أن تقفل هذه الملفات لصالح المشروع الحضاري الذي أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، من خلال حزمة من الأحاديث التي تنبه على العلة والمقصد، فضلا عن إطلاقه عليه الصلاة والسلام المجال للعقل المتخصص أن يمارس الاجتهاد، فلا يعقل يقول عليه الصلاة والسلام لمن استكمل الآلة المعرفية ((إذَا حَكَم الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أصَابَ؛ فَلَهُ أجْرَانِ، وَإذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثمَّ أخْطَأَ، فَلَهُ أجْرٌ )) ثم يأتي من يحجر على الناس نتاج هذا الاجتهاد.
آن الأوان أن نقول في هذه المسألة ومثيلاتها: المسألة خلافية، وانتهى الموضوع، وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان، وللمكلف أن يأخذ بهذا الرأي أو ذاك مسترشدا بما يرجحه المختصون دون تعصب لما يرجحون، ولتصرف الجهود بعد ذلك في اكتساب المعارف وفهم المقاصد، لا في الردود وردود الردود إلى غير نهاية، فهذا طرق لا توصل، ولا يمكن أن نتوقع أن أفهام العلماء واحدة، ومناهجهم واحدة، ونظرة سريعة في الصفحات الأولى من كتاب ابن القيم رحمه الله ” إعلام الوقعين” تجعل الناظر يدرك ذلك ليتخلص من هذه الأحادية في الطرح.
ولا شك أن هذا التوجه الأحادي، الذي يملأ مواقع التواصل الاجتماعي، وهذه الوصاية التي يمارسها نفر ليس بالقليل لا يمكن لمثل هذه الكلمات أن ترده إلى جادة الصواب ما لم تتضافر جهود الحلقات العلمية، وكليات الشريعة التي ينتظر منهما أن يُخرِّجا لنا عقولا نقدية لا عقولة حرفية، عقولا مقاصدية لا عقولا شكلانية، وبهذا نكون قد خطونا الخطوة الأولى الصحيحة في اتجاه تخطي عقبة الأحادية في الطرح والتعصب للرأي.