د. احمد جارالله ياسين يكتب:الموصل رهينة ثقافتين
يمكن النظر إلى مشكلة المباني القديمة المهدمة في الموصل القديمة لاسيما المطلة على دجلة من عدة زوايا، لكن أهم زاويتين حاضرتين في المشهد تمثلان ثقافتين مختلفتين هما (زاوية الإعمار) وهي معطلة وما تزال في إطار التنظيرات المعمارية والمقترحات الكلامية.
أما الزاوية الأخرى أو الثقافة المناظرة فهي(الجمالية) التي تنظر إلى تلك البيوت بوصفها مشهدا جميلا فنيا رغم خرابه، يمكن تصويره والخروج منه بلوحات فوتغرافية، أو لوحات تشكيلية، أو قصائد وقصص وروايات، ولو باستحضار ما كانت عليه البيوت من سحر معماري وطقوس محلية في ماضيها قبل الخراب، أو تنظر إليه بوصفه مكانا مثيرا للذكريات، وملهما للأغاني التراثية والموسيقى، تنظر اليه بوصفه مرجعا تراثيا لعادات وتقاليد جميلة وأزياء شعبية وطقوس فلكلورية.
وهذه (النظرة الجمالية) هي المسيطرة على المشهد في ظل غياب النظرة الأولى ..
أصحاب البيوت، أنا على يقين من كونهم ينتظرون تحول النظرة الأولى إلى جانب عملي، يعمر بيوتهم او يعوضهم بسكن بديل ولو بالطراز المعماري نفسه ممتزجا بالحداثة ..
واذا اهتموا بالنظرة الثانية الجمالية العاطفية فانما الاهتمام لن يتجاوز حد الثواني أو الدقائق، ومن باب الحنين والاستذكار لماض جميل تثيره في النفس لوحة أو صورة أو أغنية ..
وما بعد هذه اللحظات سيأتي السؤال: ثم ماذا؟
ماذا بعد اللوحة التي تعيد تشكيل بيوت القليعات
وأنا مثلا بلا بيت ..
ماذا بعد صورة فوتوغرافية تبرز شباكا عتيقا وأنا أسكن في بيت مؤجر بلا زجاج في نوافذه يقيني البرد ..
ماذا بعد يردلي والسمرة التي قتلتني حبا، وأنا لا أكاد أجد وقتا للإصغاء إلى نبضي المتعب من النزوح والعمل والركض خلف متطلبات الحياة اليومية الصعبة ..
هذا لسان حال الناس ..
نكاد نكمل العام الثالث ومازلنا نتعامل مع تلك المناطق (جماليا) فحسب، ونعيد ونكرر، حتى ملت الناس من لوحاتنا وصورنا والأغاني والندوات والقصائد والقصص، لأنها لم تقبض من تلك النظرة الجمالية سوى الريح، التي لم ولن توفر لهم سقفا أو جدارا سليما واحدا ..
والناس ينتظرون تفعيل الجانب الإعماري لتلك المناطق بأية طريقة تعيد للناس بيوتها الفقيدة أو تعوضها بالأفضل ..
أنا لا ألوم الفنانين والأدباء وأنا منهم على تكريس نظرتهم الجمالية وتغليبها على النظرة الإعمارية من دون قصد، لأن الاشتغال الجمالي هو منطقة عملهم الطبيعية، وربما هو أقصى مايستطيعون تقديمه.