احتجاجات العراق.. هل تعيد الهُوية الوطنية الجامعة للعراقيين؟
أدرك العراقيون بوعي «وطني» مُستحدَث أن الشيعي والسُّني والعربي والكردي وغيرهم يعيشون ظروفاً متشابهة من المعاناة تستوجب القفز على الاعتبارات الطائفية والعرقية للخروج «الجمعي» من الأزمات المتراكمة.
لم يعد للخطاب الطائفي المكانة ذاتها التي كان يحتلها في الوجدان الجمعي للمكونات الطائفية، إذ بات الخطاب وطنياً «جامعاً» للمكونين الأساسيين الشيعة والسُّنة، والمكونات الطائفية والعرقية الفرعية الأخرى، حيث خلت الشعارات المطروحة في احتجاجات العراق من أي اتجاه طائفي أو عرقي محدد، رغم أن الاحتجاجات شيعية بامتياز.
تعد خفة حدة الخطاب الطائفي «التقليدي» الشيعي الموجه ضد السُّنة، وغياب أية مؤشرات على خطاب طائفي سُني مضاد للشيعة، من بين أهم المتغيرات التي أحدثتها الاحتجاجات.
ويحاول المحتجون إعادة الهوية الوطنية الجامعة لكل العراقيين ضمن عنوانها الأكبر المتمثل برفض تدخلات إيران، ورفض واضح وصريح للأحزاب السياسية والفصائل المسلحة المرتبطة بها، وهو ما لم يكن معلن عنه قبل هذه الموجة من الاحتجاجات، وإن ظهرت بوادره خلال احتجاجات البصرة (جنوب)، في يوليو/تموز الماضي.
المراجع الشيعية تجيز الاحتجاجات
في إشارات عدة تحدثت المرجعية الشيعية العراقية في مدينة النجف عن شرعية الاحتجاجات وضرورة تلبية مطالب المحتجين ووقف حملات القمع «المنظمة» التي يتعرضون لها من جانب القوات الأمنية، مع تحذيرات «ضمنية» من التدخلات الخارجية في الشؤون العراقية، دون الإشارة إلى دولة معينة.
لكن المرجعية تشير بتلك التحذيرات، وفق خبراء، إلى إيران، رداً على تصريحات للمرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، رأى فيها أن ما يجري في العراق «مؤامرة» و «أعمال شغب» تستهدف علاقات الشعبين الإيراني والعراقي، وتقف خلفها دول عدة، منها الولايات المتحدة الأمريكية، إسرائيل والسعودية.
وجاءت المواقف، التي تبنتها المرجعية الشيعية بعد أسابيع على بدء الاحتجاجات مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، استجابة لانتقادات حادة واتهامات بعدم اتخاذ موقف واضح من الاحتجاجات ومطالب المحتجين والقمع الذي يتعرضون له من القوات الأمنية، رغم حقيقة التأثير الواسع للمرجعية على قرارات وسياسات الحكومة المركزية.
وتعمل المرجعية الشيعية بشكل حثيث على تبني خطاب منسجم إلى حد ما مع توجهات المحتجين المناهضة للتدخلات الإيرانية في العراق، في محاولة منها لعدم التصادم مع القاعدة الجماهيرية لمقلدي المرجع الشيعي العراقي، علي السيستاني، وهي القاعدة التي تشكل الجسم الحقيقي للاحتجاجات في بغداد ومحافظات وسط وجنوب العراق، وهي محافظات في عمومها ذات كثافة شيعية.
الخريطة الديموغرافية للتظاهرات
وتشكل محافظات الجنوب والوسط المجال الحيوي للنفوذ التقليدي الإيراني، بدافع العامل الطائفي المشترك، لكن الاحتجاجات اتسعت لتشمل تلك المحافظات، التي تمثل معقل القاعدة الجماهيرية لسلطة الحكم «الشيعي»، والخزان البشري للفصائل المسلحة المرتبطة بإيران من داخل الحشد الشعبي أو من خارجه.
كما أن فصائل الحشد الشعبي كانت «تحتفظ» بمكانة عالية في نفوس العراقيين الشيعة، الذين التحقوا بصفوفها بعد تشكيلها بفتوى من السيستاني لمواجهة تنظيم «داعش» الإرهابي، بعد استيلاء التنظيم على مدينة الموصل (شمال)، صيف 2014.
لكن المحتجين الشيعة باتوا ينظرون إلى فصائل الحشد على أنها «أداة قمع» مساندة للقمع الممنهج، الذي تمارسه ضدهم قوات حكومة عادل عبدالمهدي.
بعد انتهاء الحرب على «داعش» واتجاه تلك الفصائل إلى تعزيز نفوذها الأمني وقدراتها الاقتصادية، صار المحتجون ينظرون إليها على أنها جزء من منظومة الفساد، التي تنخر مؤسسات الدولة، ويطالبون بضرورة مساءلة جميع الفاسدين، في إشارة صريحة إلى فقدان تلك الفصائل مكانتها لدى قطاع من المحتجين، الذين قال الكثير منهم إنهم قاتلوا في صفوفها.
كما أن المكانة التي احتفظت بها إيران طيلة سنوات ما بعد احتلال العراق عام 2003، تراجعت إلى حد كبير على مستوى النظرة للنظام الإيراني الحاكم، مع احتفاظ الشعب الإيراني بالمكانة ذاتها، سواء بالنسبة للشيعة أو باقي مكونات المجتمع العراقي، التي باتت تتشكل لديها قناعات لم تكن موجودة قبل الاحتجاجات بتحميل إيران مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في العراق؛ بسبب دعم طهران للقوى العراقية الحليفة لها.
أمريكا وترسيخ الطائفية السياسية
رسخت الولايات المتحدة الطائفية «السياسية» من خلال نظام الحكم الذي أرست قواعده على أسس النسب التمثيلية للمكونات الطائفية والدينية والعرقية واقتسام السلطة والموارد بين المكونات الرئيسية مع هامش منها للمكونات الثانوية.
وأتاح النظام السياسي «الجديد» الفرصة لإيران لتعزيز نفوذها في العراق، عبر دعم قوى سياسية حليفة لها وفصائل شيعية مسلحة، بعضها تشكل في إيران خلال حرب الخليج الأولى (بين العراق وإيران من 1980 إلى 1988)، ومواصلة دعمها وتشكيل أجنحة سياسية لها باتت تشكل الجزء الأهم من منظومة الحكم القائمة، والتي تنامت قدراتها بعد أحداث الموصل 2014، وتشكيل هيئة الحشد الشعبي.
متظاهرون عراقيون في شوارع بغداد / رويترز
بدا واضحاً على لسان المحتجين حالة الغضب من النفوذ الإيراني في العراق، أو في بعض الحوادث التي رافقت موجة الاحتجاجات الراهنة، ومنها إحراق جدار القنصلية الإيرانية بمدينة كربلاء (جنوب)، ذات الرمزية العالية لعموم الشيعة في العالم.
وفي إشارة «ضمنية» لتدخلات خامنئي، تعتقد المرجعية الشيعية في العراق أنه لا يحق لأي شخص أو جماعة أو دولة أو جهة فرض الوصاية على العراقيين وتحديد خياراتهم في كل ما يتعلق بإدارة بلدهم أو الإصلاحات التي يسعون لتحقيقها وسبل الوصول إليها.
وتواجه الاداعاءات الإيرانية وادعاءات فصائل الحشد الشعبي بوصف الاحتجاجات بـ «المؤامرة الأجنبية»، موجة رفض من المحتجين، الذين يؤكدون على ثوابت الاحتجاجات في عدم الارتباط بأية جهة حزبية أو دولة أجنبية.
ويعكس هذا الوضع واقع الانقسام «غير المسبوق» بين عموم الشيعة ومنظومة الحكم «الشيعية»، المتمثلة بالحكومة المركزية ومجلس النواب، الذي يضم تحالف «الفتح»، بقيادة هادي العامري، وهو التحالف الذي يمثل الجناح السياسي لعدد من فصائل الحشد الشعبي الحليفة لإيران.
وتجاوزت الانتقادات العراقية للتدخلات الإيرانية وتحميل طهران مسؤولية تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية فئة المحتجين إلى كبار المسؤولين السياسيين والقيادات الدينية الشيعية، ضمن مقاربة توازن بين تغليب المصالح الإيرانية على مصالح العراقيين، من وجهة نظر العراقيين، أو إعطاء المصالح العراقية الأولوية على ما سواها.
الدعم السياسي غير كافٍ
ورغم الدعم الصريح من إيران لحكومة عبدالمهدي، فإن قيادات شيعية بارزة قريبة من طهران أظهرت معارضة علنية للحكومة، مثل مقتدى الصدر وعمار الحكيم، لكن أياً منهما لم يوجه انتقادات مباشرة لإيران.
وفي تحدٍّ واضح للإرادة الإيرانية، يواصل المحتجون الشيعة احتجاجاتهم مُصرين على إسقاط الحكومة، التي تدفع إيران باتجاه الحفاظ عليها، عبر الدعم الذي تقدمه لها القوى الحليفة، سواء في مجلس النواب، وهو تحالف «الفتح»، أو في هيئة الحشد الشعبي، التي تضم عدداً كبيراً من الفصائل الموالية لطهران، وتمثل قوة «الأمر الواقع» في العراق، نظراً لنفوذها الواسع في مراكز القرار السياسي والأمني والعسكري.
وتدفع إيران نحو منع إسقاط حكومة عبدالمهدي، حتى لا يمثل ذلك انتصاراً «حقيقياً» لإرادة المحتجين وضربة «قاسية» للسياسات الإيرانية في العراق.
على ما يبدو فإن اصطفاف فصائل الحشد الشعبي بجانب حكومة عبدالمهدي وضع تلك الفصائل في الخندق الآخر «المناهض» لتطلعات المحتجين، ما يعكس واقع الانقسام داخل الصف الشيعي، أو ما يمكن اعتباره حالة ذوبان للتيار الشيعي المناهض لإيران في الهوية «الوطنية»، بعيداً عن التخندق الطائفي، الذي ظل سائدًا طيلة سنوات ما بعد الاحتلال.
لا يمكن القول إن إيران باتت مصنفة ضمن أعداء الشعب العراقي، لكن السلوك الإيراني أصبح مرفوضاً من قطاعات واسعة من العراقيين الشيعة، الذين لا يزال صفهم منقسماً بين قيادات سياسية ودينية وأخرى من قيادات الفصائل المسلحة المؤيدة لإيران وقيادات تناهض الوجود الإيراني المباشر أو عبر القوى الحليفة لها، كانعكاس واضح للتنافس والصراع بين هذين التيارين الشيعيين