أي حرية تعبير في العراق؟ العربي الجديد: فارس الخطاب رصد عراقيون
لا تتسق النصوص القانونية في الإعلام وحرية التعبير التي عمدت سلطة الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، وفي ظل إدارة الحاكم الأميركي المدني، بول بريمر، لتكريسها، مع المواثيق والأعراف الدولية الضامنة لهذه الحرية، وكان العراق في عهود حكمه الوطني قد وقّع عليها. العراق الذي ضمن لمواطنيه حرياتهم، في أول دستور له عام 1925، عاد بعد نحو ثمانين عاما، ليضع شعبه تحت بنود دستورية تحدّ من حرياتٍ كثيرة، تواجه بشكل استبدادي وخطير حرية التعبير عن الرأي، سواء على مستوى الأفراد والجماعات أم على مستوى الإعلام ووسائله. وعلى الرغم من توقعات كثيرين إن الإعلام في العراق الجديد سيحظى بمساحة كبيرة جدا من حرية التعبير، تجعل وسائله سلطة رابعة فعلا لمتابعة بقية السلطات، وبيان سلبياتها أو مظاهر الفساد فيها، إلا أن بريمر (سلطة الاحتلال)، والحكومات التي جاءت واجهات عراقية من بعده، أجهضا هذه التوقعات؛ فقد كرّس أول قرار لبريمر، في هذا الخصوص، في يونيو/ حزيران 2003، فرض القيود على حريتي الإعلام والتعبير. وفي مادته أنه “يجوز للمدير الإداري للسلطة الائتلافية المؤقتة أن يأذن بإجراء عمليات تفتيش للأماكن التي تعمل فيها المنظمات الإعلامية العراقية، من دون إخطار، بغية التأكد من امتثالها لهذا الأمر، ويجوز له مصادرة أية مواد محظورة، وأية معدات إنتاج محظورة، ويجوز له إغلاق أية مبان تعمل فيها هذه المنظمات، ..”.
وما زال هذا القرار يستخدم، حين يراد مطاردة الصحف وتفتيش مكاتبها وإغلاقها واعتقال العاملين فيها أو خارجها، وهو ما حدث لمكاتب قنوات عربية وعراقية، أبرزها مكاتب قناتي الجزيرة والبغدادية، في أوقات سابقة، وقناة “إن آر تي” الناطقة بالعربية والكردية، والتي أغلقتها السلطات الأمنية في السليمانية بطريقة فوضوية، وصادرت أجهزة البث التابعة لها، بحجة تحريض القناة الناس على التظاهر. وكانت منظمات حقوقية قد ثبتت ارتكاب السلطات في إقليم كردستان انتهاكات عديدة خطيرة بالصحفيين العاملين وإغلاق وسائل إعلام ومكاتب فضائيات تختلف في الرأي مع توجهات قيادات الإقليم.
في الدستور العراقي الدائم الصادر في 2005، تم تثبيت موضوع حرية الإعلام والتعبير ضمن مادة “حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر”، إلا أن النص لم يفعّل بتشريعات قانونية (تتبع المزاج العام للحاكم الفعلي والنظام)، وهو ما جسّدته فعلا الحالة العامة للإدارة السياسية في العراق، بما شوه التطبيق الفعلي لهذه المادة، أو قيّده. وعلى العكس؛ شهد العراق تجاوزات خطيرة على حرية التعبير والإعلام، تمثلت بمنع الصحفيين من تغطية الأحداث، والقبض التعسفي والضرب الميداني والإهانة والاختطاف الممنهج والتوجيه الطائفي
“الاحتجاج والإضراب والتظاهر تعد خروجا على القانون يستدعي الحبس أو الغرامة. ولكن ليس عندما تكون خلف التظاهر والاحتجاج شخصيات ضمن المكوّن المهيمن على الحكم”
القسري، ومراقبة النتاجات الإعلامية، ومصادرة المعدات والأجهزة. كما تعرّض صحفيون عراقيون لمحاكمات جنائية، وأوامر قبض بتأثيرات لسياسيين متنفذين. إضافة إلى الممارسة الأخطر؛ وهي الاغتيال بطرق واضحة الدلالة على مرتكبي جرائم قتل الرأي الآخر، من دون أية متابعات حقيقية من السلطات المسؤولة عن حفظ الأمن وحياة المواطنين.
وتختلط في العراق القيود على حرية التعبير باعتبارها حقا عاما لكل مواطن، ومن حرية التعبير إظهار الأخبار والتحقيقات وكشف المستور مما يخص عمل الإعلام ومهامه، فالاحتجاج والإضراب والتظاهر تعد خروجا على القانون يستدعي الحبس أو الغرامة (وهو أمر يتقاطع ومظاهر المجتمعات الديموقراطية). ولكن لا يتم التعامل معه على هذا الأساس، عندما تكون خلف حالات التظاهر والاحتجاج شخصيات أو قوى ضمن المكوّن المهيمن على الحكم. تماما كما هو حال المادة 200 “يعاقب بالإعدام كل من حرّض على قلب نظام الحكم المقرّر في العراق، أو على كراهيته، أو الازدراء به، أو حبذ أو روج ما يثير النعرات المذهبية أو الطائفية أو حرض على النزاع بين الطوائف والأجناس، أو أثار شعور الكراهية والبغضاء بين سكان العراق”، فيما كان رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، يشير بوضوح إلى موضوع التحشّد الطائفي خلال محاولات كسب التأييد له في انتخابات 2014، مثلا.
وعلى الرغم من خسائر العراقيين في قضايا التعبير عن الرأي، وقد بلغت عشرات الآلآف من المواطنين الذي حاولوا تارة مواجهة الاحتلال الأميركي وسواه، ثم التصدي للفساد والمفسدين تارة أخرى، وعلى الرغم من أن العالم كله كان يصدر التوجيهات والقرارات الخاصة بضوابط التعامل مع الصحفيين في العراق، وضرورة حمايتهم وعدم التعامل مع قضاياهم وكأنها قضايا جنائية، إلا أن قوات الاحتلال الأميركي، بداية، ثم المليشيات التي ينحو بعضها منحىً طائفيا أو إقليميا ممنهجا، وكذلك التنظيمات الإرهابية كالقاعدة و”داعش”، كل هؤلاء أوغلوا في قتل (وتدمير) كل ما يمكن أن يوقف النشاط الإعلامي الهادف إلى إظهار الحقيقة، وقتل بسبب ذلك مئات من الصحفيين العراقيين والأجانب، واختطف العشرات، واعتقل وأرهب كثيرون، ما جعل العراق أخطر بقعة في العالم للعمل الصحفي. وهو أمر لم يتغير، وإن قلّت أعداد ضحاياه، وفق لجنة حماية الصحافيين (سي بي جاي)، إن العراق ما زال يتقدم قائمة البلاد الأكثر خطرا على الصحفيين في العالم، تليه سورية وأفغانستان.