استفتاء كردستان وتكريس فشل الدولة في العراق القدس: يحيى الكبيسي رصد عراقيون
يظهر فشل الدولة في العراق مع كل أزمة جديدة، ويتمظهر هذا الفشل من خلال تعاطي القوى المختلفة مع هذه الأزمات من خلال مصالح الهويات الفرعية، القومية والمذهبية، للفاعلين السياسيين، ومحاولة كل طرف الحصول على مكاسب أكبر على حساب الآخر، بعيدا عن منطق الدولة، وبعيدا عن منطق المصالح المشتركة للعراقيين جميعا.
بعد سيطرة تنظيم الدولة/ داعش على الموصل في يونيو/حزيران 2014، فرض الفاعل السياسي الشيعي رؤيته الأحادية لمواجهة هذا التهديد، من خلال التعاطي معه على أنه تهديد هوياتي، وليس تهديدا للدولة العراقية! وعلى هذا الأساس لجأ إلى آليات «طائفية» بحت لمواجهة «داعش»، بعيدا عن منطق الدولة، الذي يفترض إيجاد توافق «وطني» لتحديد سبل هذه المواجهة! وبعيدا عن أي محددات دستورية أو قانونية! كما حاول هذا الفاعل استخدام هذا التهديد لتحقيق مكاسب أكبر على الأرض عجز عن تحقيقها عبر سيطرته على الدولة! هكذا أجهز الفاعل السياسي الشيعي على الفكرة الأمريكية المقترحة لإنشاء «حرس وطني» يعتمد على قوى محلية لمواجهة «داعش» مستبدلا إياها بميليشيات عقائدية لتحقيق هذا الهدف! وهكذا تكرس فشل الدولة في العراق من خلال طبيعة الحرب على «داعش».
مشهد آخر يتمظهر اليوم ويكرس هذا الفشل أيضا، ويتمثل في أزمة استفتاء إقليم كردستان، وردود الفعل تجاه هذه الأزمة، فمنذ الإعلان عن هذا الاستفتاء في بداية شباط/ فبراير الماضي، وصولا إلى اتخاذ قرار تحديد موعد هذا الاستفتاء في حزيران/ يونيو بمشاركة القوى السياسية الكردية المختلفة، تصاعد الخطاب الشوفيني من جميع الأطراف! وقد تعاطت الحكومة المركزية مع هذا القرار بشكل «عبثي» إلى حد بعيد، ارتكز على كلام مكرر حول «لا دستورية» هذا الاستفتاء، مع إدراك الجميع أن لا أحد في العراق يحترم هذا الدستور، وأن الجميع إنما يستخدمونه تبعا لمصالحهم! وجاء أول رد فعل للحكومة المركزية على قرار تحديد موعد الاستفتاء، على لسان الناطق باسم رئاسة الوزراء «أي موقف أو خطوة تتخذ من أي طرف في العراق يجب أن تكون مستندة إلى الدستور»، وهي الحجة نفسها التي استخدمها الفاعل السياسي السني للاعتراض على قرار تشكيل ميليشيا الحشد الشعبي، ولكن الحكومة لم تلتفت إليها مطلقا (ظلت ميليشيا الحشد الشعبي تعمل على مدى أكثر من سنتين من دون إطار دستوري أو قانوني!). مع ضرورة التنبيه على أن الحكومات المركزية المتتالية، ومن بينها حكومة العبادي نفسه، قد تواطأت مع الإقليم في تمدده إلى المناطق المتنازع عليها، كان آخرها السماح لقوات البيشمركه بالسيطرة على مناطق تعد جزءا من محافظة نينوى مع انطلاق عمليات استعادة الموصل نهاية عام 2016!
وقد ظلت هذه الحجة هي الحجة الوحيدة التي تعتمدها الحكومة العراقية ورئيسها، في رفض الاستفتاء، من دون أن تتحرك هذه الحكومة أو رئيسها الالتزام بالمادة الدستورية التي تجعل المحكمة الاتحادية صاحبة الاختصاص الحصري في الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية، وحكومات الإقاليم (المادة 93/ رابعا). وهو ما يجعل حديثها عن «اللادستورية» مجرد موقف لطرف من أطراف الأزمة، في مقابل موقف مضاد من الطرف الثاني يدعي هو الآخر بدستورية القرار!
واخيرا دخل مجلس النواب نفسه في دائرة هذا العبث عندما قرر يوم أمس الأول بأغلبية 173 صوتا (52.7٪ من أعضاء مجلس النواب) رفض استفتاء إقليم كردستان! على الرغم من أن الدستور نفسه (المادة 61)، والنظام الداخلي لمجلس النواب (المواد 30 و31)، لا يتضمن أي اختصاص للمجلس بإصدار «قرارات» لها قوة القانون، أي قرارات ملزمة للسلطة التنفيذية! وأن المحكمة الاتحادية نفسها سبق لها أن أصدرت قرار «باتا وملزما للسلطات كافة» بأن الدستور العراقي «لم يشر من بعيد أو قريب إلى صلاحية مجلس النواب باتخاذ قرارات لها قوة القانون (أي إصدار قواعد عامة مجردة بعنوان قرارات تتضمن قواعد عامة تلزم الحكومة بتنفيذها»، وهذا يعني عمليا مجلس النواب لا يمتلك أي صلاحية لإصدار قرارات، وبالتالي لا قيمة إلزامية لها (قرار المحكمة الاتحادية رقم 28 لسنة 2012)!
وتماما كما الحكومة المركزية، لم يعمد مجلس النواب، أو أي من أعضائه إلى اللجوء إلى المحكمة الاتحادية، صاحبة الاختصاص الحصري بهذا الشأن كما قدمنا!
إن ما يجري في الواقع هو صراع بين فاعلين سياسيين بعيدا عن أي إطار دستوري أو قانوني، والجميع يعلم تمام العلم أن المحكمة الاتحادية نفسها هي جزء من هذا الصراع، فهي جهة مسيسة بالكامل، وخاضعة لإرادة الفعل السياسي الأقوى! وبالتالي لا يريد أي طرف اللجوء إليها كأداة للحسم! ومراجعة بسيطة للصراع القائم بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان طوال السنوات الماضية تكشف عن عدم لجوء أي من الطرفين إلى المحكمة الاتحادية من أجل «الفصل» في النزاعات بينهما وهذا ما عنيناه بداية من فكرة تكريس فشل الدولة!
بالعودة إلى الاستفتاء، فقد تضمن الدستور العراقي فقرتين «حمالتي أوجه» لا بد من الإشارة إليهما للكشف عن طبيعة الأزمة الأعمق فيما يتعلق بالدولة العراقية. فقد تضمنت ديباجة الدستور فقرة تتحدث عن قرار للشعب العراقي «بكل مكوناته وأطيافه أن يقرر بحريته واختياره الاتحاد بنفسه»، وأن الالتزام بهذا الدستور وحده «يحفظ للعراق اتحاده الحر شعبا وأرضا وسيادة»! وقد كررت المادة الأولى من الدستور هذا الطرح الغريب عندما قررت أن «جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ، وهذا الدستور ضامنٌ لوحدة العراق»! وهذان النصان يعكسان أجواء الصفقة التي حكمت كتابة الدستور العراقي في العام 2005، الصفقة التي سمحت للفاعلين السياسيين الشيعة والكرد، الذين كتبوا عمليا الدستور العراقي في غياب شبه مطلق للفاعل السياسي السني، أن يضعوا فيه مصالح ومكاسب هوياتية بعيدا عن منطق «الدولة» أو «الهوية الجامعة»! وهاتان الفقرتان الدستوريتان يستخدمها الفاعل السياسي الكردي بشكل صريح لشرعنة قراره المتعلق بالاستفتاء، وبالتأكيد سيستخدمها لاحقا لشرعنة «الانفصال» الاختياري اتساقا مع «الاتحاد» الاختياري الذي قرره الدستور! ويذكر نص مشروع دستور إقليم كردستان (2006 بعد أقل من سنة من إقرار الدستور العراقي) صراحة بأن الكرد كانوا ضحية للمصالح الدولية التي حرمتهم من «حق تقرير المصير»، وبأن إلحاقهم بالعراق العربي تم «دونما استطلاع لرأينا أو استفتاء». كما يقرر أن «لشعب كوردستان العراق الحق في تقرير مصيره بنفسه وهو بمقتضى هذا الحق حر في تقرير مركزه السياسي… وقد اختار الاتحاد الحر بالعراق… طالما يلتزم بالدستور الاتحادي» (المادة 8)، بل أن المادة نفسها حددت الحالات التي «تضمن» هذا الاتحاد الحر والاختياري! تأكيد على أن حلم الانفصال عن العراق لم يكن بعيدا عن تفكير الفاعلين السياسيين الكرد في أي لحظة من اللحظات، وأن محاولة تسويغ الاستفتاء بأنه مجرد رد فعل على تصرفات الحكومة المركزية غير صحيح.
في العراق ينظر الجميع إلى مشاكل العراق من منظار هويته الفرعية أكثر مما ينظر اليه من منظار هوية جامعة ومصالح مشتركة! والكل يستخدم الدستور كأداة لتسويق موقفه ليس إلا.
وفي الأخير نكرر ما قلناه في مقالة سابقة بشأن الاستفتاء، بأن حق تقرير المصير بالنسبة للكرد، وبالنسبة للإقليم، حق أصيل، ولكن تحويل الحق إلى واقع سياسي، لا يمكن أن يمر بقرار كردي منفرد، ولا يمكن أن تتشكل حدود «الدولة الكردية المنشودة» بصيغة فرض الأمر الواقع، باستغلال لحظة تنظيم الدولة/ داعش من أجل رسم خرائط كهذه.