إيران وتركيا من التنافس الإقليمي إلى التحالف الأمني بكر صدقي رصد عراقيون
لم تكن زيارة رئيس أركان الجيش الإيراني محمد باقري إلى أنقرة بالعادية. فبالنظر إلى حجم الوفد الذي ترأسه (عشرة أشخاص) والفترة الزمنية التي استغرقتها اتصالاته ومباحثاته (ثلاثة أيام)، والسياق التاريخي الذي تمت فيه، والتصريحات التي تلت الزيارة من مسؤولي البلدين، يمكننا الافتراض أنها زيارة تاريخية فعلاً (فهي الأولى من نوعها منذ قيام الجمهورية الإسلامية في 1979) قد تؤسس لتحالف قائم على المخاطر المشتركة التي يرى البلدان أنهما يواجهانها، وإن احتفظا بمصالح متباينة في الجوار الإقليمي كانت في أساس العلاقة التنافسية السابقة.
لم يترك لنا الرئيس التركي أردوغان مجالاً للتكهنات حين صرح، في أعقاب انتهاء زيارة الوفد الإيراني، بأن البلدين يمكن أن يقوما بعمليات عسكرية مشتركة في جبال قنديل وسنجار حيث تتواجد قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني (التركي).
وصادق بيان أصدرته قيادة الأركان الإيرانية، بصدد نتائج الزيارة، على ما قاله أردوغان، مقابل تنصل أحد قيادات الحرس الثوري الإيراني منه. قد يمكن رد هذه الازدواجية في الرؤية الإيرانية إلى تناقضات داخلية في الطبقة الحاكمة، أو إلى توزيع أدوار بهدف التشويش على الخصوم أو تجنب ردة فعل محتملة منهم، أو للضغط على القوى الفاعلة الكردية لتحقيق مكاسب معينة دون الحاجة إلى استخدام القوة بصورة مباشرة.
مهما كانت حقيقة ذلك، يبقى أن ما وحد مخاوف طهران وأنقرة ودفعهما إلى هذا التنسيق العسكري ـ الاستخباري عالي المستوى، إنما هو الموضوع الكردي العابر للإقليم، من سوريا إلى تركيا فالعراق وصولاً إلى إيران. وهذا ما يمكن وصفه بعودة إلى السياسة التقليدية للدول الأربع التي تتوزع الأراضي المتصلة التي يقيم عليها السكان الكرد، بعد سنوات من الانقطاع الذي فرضته الخضات الكبيرة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق وصولاً إلى ثورات الربيع العربي ومآلاتها. وإذ أسقطت تلك التطورات كلاً من العراق وسوريا البعثيتين في هاوية الفوضى، لم يبق من رباعي التنسيق المعادي للكرد إلا تركيا وإيران. وبعد سنوات من تضارب الأجندات بين طهران وأنقرة، في كل من سوريا والعراق، تعود الدولتان إلى نوع من التحالف من البوابة الأمنية في مواجهة ما تريانها أخطاراً مشتركة على أمنهما القومي، هي التطلعات القومية للكرد.
العامل الآخر الذي دفع الطرفين إلى هذا التقارب هو السياسة الأمريكية لإدارة دونالد ترامب في المنطقة. وإذا كانت الحكومة التركية قد عانت الكثير من إدارة أوباما، بسبب تحالفها مع حزب الاتحاد الديمقراطي في حربها على داعش، فالمعاناة الإيرانية تخص العهد الجديد في واشنطن الذي أعلن عداءه الصريح لطهران بخلاف سلفه أوباما.
الآن تستعد الأطراف الإقليمية والدولية لمرحلة ما بعد داعش في العراق وسوريا، وتأمل موسكو في فرض تسوية سياسية في سوريا تضمن بقاء عميلها على رأس السلطة في دمشق، مع توزيع مناطق نفوذ للدول المنخرطة تحت يافطة «خفض التصعيد»، في حين تقيم واشنطن قواعد عسكرية دائمة في شرق البلاد. وفي هذا الإطار ما زال مصير الكيان الفيدرالي في شمال سوريا تحت سيطرة القوات التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، في المجهول ويخضع للتجاذبات والتكهنات معاً. ولكن من المحتمل أن يحظى هذا الكيان بحماية أمريكية وتقبل روسي، وهو ما يثير مخاوف تركيا أولاً، وإيران المستبعدة من تسويات الجنوب والغوطة وريف حمص ثانياً.
الواقع أن نوعاً من شهر العسل المديد ساد علاقة طهران بحزب العمال الكردستاني وفروعه الإقليمية، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، من منطلق الخصومة المشتركة لأنقرة (ولأربيل أيضاً). فقد أوقف الفرع الإيراني للحزب هجماته ضد القوات الإيرانية، في ربيع العام 2011، مقابل تخلي النظام الكيماوي في دمشق عن المناطق الكردية في الشمال والشمال الشرقي لمصلحة قوات الفرع السوري للكردستاني. ومن جهة أخرى عاد الحزب الأم في تركيا إلى إطلاق عملياته العسكرية ضد الجيش التركي، وعمل فرعه السوري على منع الكرد السوريين من المشاركة في الثورة الوطنية العامة ضد نظام آل الأسد الكيماوي، ليتفرغ هذا الأخير لمواجهة المناطق الثائرة في درعا وحمص وحماه وريف دمشق وحلب ودير الزور وإدلب وغيرها، بما يساعد على خلق انطباع بـ»ثورة سنية» ضد نظام أقلوي، سيتعزز، بعد تسلح الثورة، بموجة كاسحة من الأسلمة وصولاً إلى دخول السلفية الجهادية كطرف رئيسي في الصراع الداخلي.
اليوم، على ضوء زيارة وفد الأركان الإيراني إلى أنقرة، يمكن القول أن شهر العسل المذكور قد انتهى، ما لم يفاجئنا «الكردستاني» بانعطافة جديدة تعيد الوئام مع طهران. فالهاجس الإيراني ينصب أكثر على التطورات في كردستان العراق الذي يستعد لإجراء الاستفتاء على استقلال الإقليم بعد أسابيع قليلة. وهو الأمر الذي تعارضه طهران علناً وتطلق التهديدات ضد قيادة الإقليم ما لم تتراجع عن إجراء الاستفتاء العتيد. في حين ينصب الهاجس التركي على شمال سوريا حيث الفرع السوري للعمال الكردستاني يقوم بتكريس سلطة الأمر الواقع في حماية حليفه الأمريكي، وبرضى روسي.
لكن الوجع الإيراني هو أساساً في سوريا حيث استثمرت طهران موارد بشرية ومالية ضخمة للإبقاء على تابعها واقفاً على قدميه. وها هي موسكو تتفرد اليوم بتقرير مصير سوريا، وقد باتت وصية عليها، وقامت باستبعاد طهران من تسويات محلية (لخفض التصعيد) مع شركاء آخرين، أمريكيين وأردنيين ومصريين وربما إسرائيليين. ليبقى الحضور السياسي الوحيد لطهران في المسألة السورية هو من خلال مشاركتها في مسار آستانة. من غير أن يقلل ذلك من مخاوف طهران بصدد العراق ككل ـ وليس الإقليم الكردستاني وحده ـ بعدما بدأت السعودية تمد نفوذها إلى داخل «العراق الشيعي» نفسه.
هل يحتمل أن يغير التحالف الأمني الجديد بين طهران وأنقرة من معادلات الصراع في سوريا والعراق، وأبعد من ذلك في الصراع الإيراني ـ الخليجي؟ هذا ما ستكشف عنه الأسابيع القادمة.
#وكالة_انباء_عراقيون