موسم تبديل الأقنعة في العراق العرب فاروق يوسف رصد عراقيون
صنع رجال الدين ومن التف حولهم من السياسيين قاعدة راسخة لسلوك سياسي ماكر في نفعيته، مراوغ في لغته، متلون في أهدافه بحيث ضاقت المسافة بين الإخواني والشيوعي، بين المحافظ والليبرالي، بين الطائفي والمتحرر من الطائفية.
غالبا ما يراهن سياسيو العالم العربي على النسيان. الشعوب تنسى ما جرى لها بفعل تراكم الكوارث، بعضها فوق بعض وفي وقت قياسي.
ذلك الرهان المؤسف صار واضحا في عراق ما بعد العام 2003 بطريقة تدعو إلى الاستغراب لما تنطوي عليه من استخفاف بالشعب وسخرية من قدراته العقلية وتقديراته الإنسانية.
من المعروف أن العملية السياسية التي نسج خيوطها المحتل الأميركي، قد قامت بالأساس على مبدأ المحاصصة الطائفية بين الأحزاب والكتل التي أعلنت عن ولائها للاحتلال رافعة شعار التغيير.
منذ بدء تلك العملية السياسية وحتى اليوم لم تتغير وجوه أفراد الطاقم الأساسي. غير أنهم كانوا يغيرون أقنعتهم كما لو أنهم في حفلة تنكرية تقام كل أربع سنوات في موسم الانتخابات الذي يسبقه موسم تبديل الأقنعة.
لقد صار وجود أولئك السياسيين لازمة حياة في المشهد السياسي العراقي. فهم يتنافسون في ما بينهم على عدد المقاعد التي تحصل عليها كتلهم وأحزابهم في مجلس النواب، وما من أحد ينافسهم. يكاد الأمر يكون شبيها بحفلة عائلية مغلقة يقتصر الحضور فيها على أفراد بعينهم.
وفقا لذلك الوصف الواقعي فإن الشعب العراقي يؤدي في ما صار يسمى باللعبة الديمقراطية دور شاهد زور، لن يكون المطلوب منه سوى أن يُذيّل نتائج التسويات التي ينتهي إليها الأخوة الأعداء بتوقيعه.
لقد صار متعارفا عليه أنه ليس مطلوبا من الأحزاب والكتل السياسية أن تكون لها مشاريع سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
فالعراق الذي هدمته الحروب وأخرجته من لائحة الدول الحية سيبقى على حاله بغـض النظر عـن الجهة التي تحكمه. وبما أن الشعب العراقي، من دون كل شعوب الأرض، قد تماهى مع نظرية “المغلوب على أمره” فإنه لا يرى في مكانته السلبية في العملية السياسية نوعا من الانتقاص من قيمته.
المشكلة تكمن في أن ذلك الشعب لا يؤمن بقيمة ما يمكن أن يقوم به اعتراضا واحتجاجا بذريعة أن لا فائدة من القيام بذلك.
وكما يبدو فإن السياسيين يبدلون أقنعتهم لا خوفا من الشعب واسترضاء له، بل لتسليته واللعب معه من أجل تزيين كل ذلك الخراب الذي لحق بالعراق.
هناك دائما تحالفات جديدة تنقض التحالفات القديمة. ولا أحد في إمكانه أن يميز بين الجديد والقديم. ذلك لأن المفاهيم لتي يجري تداولها قد تم تعويمها بطريقة منحتها الكثير من الليونة والمرونة والسعة.
ما من شيء يمتُّ إلى المبادئ الثابتة بصلة. العراق هو سوق تُباع فيه القيم بأرخص الأسعار. يمكنك أن تقول أي شيء من غير أن تكون مسؤولا عما قلته. لن يحاسبك أحد إلا إذا كنتَ من غير غطاء حزبي.
لقد صنع رجال الدين ومن التف حولهم من السياسيين قاعدة راسخة لسلوك سياسي ماكر في نفعيته، مراوغ في لغته، متلون في أهدافه بحيث ضاقت المسافة بين الإخواني والشيوعي، بين المحافظ والليبرالي، بين الطائفي والمتحرر من الطائفية.
في لحظة تراهم كلهم متشددين في طائفيتهم، عتاة في سلفيتهم، منغلقين على أصولهم الحزبية، وفي لحظة أخرى تراهم كلهم منفتحين على الآخر، عابرين للطوائف، متحررين من كل عقدة حزبية.
لقد اجتهدت الولايات المتحدة في اختيار الدمى التي سلمتها العراق باعتباره مسرحا للعرائس. غير أن اللوم كله سيقع تاريخيا على الشعب العراقي.
لقد ذيل بتوقيعه كل فصول المسرحية العبثية التي جعلت منه شعبا رثا من وجهة نظر سياسييه الذين يعرف أنهم انتقلوا من القاع إلى القمة بضربة ساحر، لا لشيء إلا لأنهم تعاونوا مع المحتل الأميركي، وصاروا أداة طيعة بيد المحتل الإيراني، وحرموا العراقيين من خلال ماكنة فسادهم الهائلة من فرص استثمار ثرواتهم في إعمار بنية بلادهم التحتية، وفي التنمية الحقيقية بعيدا عن المسيرات الجنائزية التي صارت الأحزاب الرجعية والتقدمية (الحزب الشيوعي حصرا) تديرها من أجل محو ما تبقى من العقل العراقي.
لقد غُيب الإنسان العراقي. غيبت حقيقة حبه للحياة فصار جنائزيا. غيبت قرون تعايشه مع المختلف فصار طائفيا منغلقا على فكرته الرثة عن العالم. غيبت حداثته فصارت حفيدات النساء اللواتي سبقن سواهن في العالم العربي إلى ارتداء الميني جيب يتوشحن بالنقاب.
تحت شعار النسيان يبدأ العراقيون في كل مرة دورة جديدة من دورات حياتهم التي صارت تمحو تاريخهم.
كاتب عراقي
فاروق يوسف