تجديد الفكر الإسلامي.. أم تدويره؟ رشيد الخيون رصد عراقيون
كثر الحديث عن تجديد الفكر الإسلامي، مع تزايد نقد الفكر السَّلفي، والسَّلفي هنا لا يختص بمذهب دون آخر، إنما للمذاهب كافة سلفيتها. صدرت الكتب ونُشرت المقالات وعُقدت المؤتمرات، لكن الحصيلة لا تتخطى العودة إلى القديم، حتى اختص السَّلفيون المُذَكِّرون بأفعال وأقوال السَّلف بلقب المجددين؟ ونجد لدى السُّيوطي(ت911هـ) أرجوزة عنوانها «تحفة المهتدين بأخبار المجددين»، قصد الذين أحيوا الحديث والسُّنَّة، ويعد بينهم الشَّافعي(ت204هـ)، والأشعري(ت324هــ).
كذلك ذكر أبو السَّعادات ابن الأثير(ت606هـ) في «جامع الأُصول» عدداً كبيراً مِن المجددين، وبينهم محمد الباقر(ت122هــ)، ومحمد الكُليني(ت329هـ)، صاحب كتاب «الكافي» في الحديث عند الإمامية. هذا في الزَّمن الماضي، أما في الحاضر فلا يُحصى عدد المجددين لدى المذاهب كافة، بينما تجديدهم لا يتعدى التَّذكير بالماضي، حماية مِن «بدعة»، لكنْ لا نجد الجديد الموافق لتبدل الأزمان. فحسب ما نُقل عن معاوية(ت60هـ)، وكان بيده تعيين القضاة وتقديم الفقهاء: «إن معروف زماننا هذا منكرُ زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأتِ»(البلاذري، أنساب الأشراف).
مِن هنا، يأتي الإشكال في المصطلح (التَّجديد) نفسه، لا نكاد يُميز بين مَن تبنى فكرة جديدة، ومَن أعاد فكرة قديمة للحضور. نجد هذا الالتباس في قاموس العربية نفسه. تأتي مفردة «الجديد» بمعنى: «ما لا عهد لك به»، أي إيجاد أفكار ومفاهيم لم تُعرف مِن قبل، و«ثوب جديد كما جده الحائك»، و«الجديد وجه الأرض»(الجوهري، الصَّحاح)، فلم نعثر على ما يُقرن بالتجديد، الذي نطلبه، بما ما ورد في التراث.
نجد أغلب مَن كتب، مِن القدماء والمحدثين، عن التجديد استند إلى الحديث النَّبوي الآتي: «إن الله يبعثُ لهذه الأُّمة على رأس كلِّ مائة سنةٍ مَن يُجدد لها دينها»(سنن أبي داوُّد/كتاب الملاحم)، وعند غيره ورد في «كتاب الفتن»، وبغض النَّظر عن درجة صحة هذا الحديث، إلا أن روايته وانتشاره ارتبط، على ما يبدو، بمواجهة نتائج «ثورة الزِّنج»(255-270هـ) بالبصرة، فعندما وضعت الحرب أوزارها، وأُخمدت ثورة مِن أخطر الثَّورات في العصر العباسي، كلف ولي العهد الموفق بالله(ت278هـ)، راوية الحديث المذكور صاحب السِّنن أبا داوُّد سليمان بن الأشعث السِّجستاني(ت275 هـ) بالذِّهاب إلى البصرة، كي يقوم بدوره التَّجديدي أي التَّذكير بالدِّين. قائلاً له: «تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطناً، ليرحل إليك طلبة العلم، فتعمر بك، فإنها قد خربت، وانقطع عنها النَّاس، لما جرى عليها من محنة الزِّنج»(الحنبلي، طبقات الحنابلة).
غير أننا نستشف مِن الحديث المذكور: «على رأس كلِّ مائة سنة» يقصد جيلاً كاملاً مِن النَّاس، وهذا ما يشرحه صاحب كتاب «عون المعبود على شرح سُنن أَبي داوُّد»: «فإن على رأس مائة سَنة منها لا يبقى ممَن هو على ظهر الأرض أحد». لذا وضع المصنفون، وبدافع هذا الحديث، لكلِّ مائة عام مُجدداً، أو جماعة مِن المجددين، والفكرة غير بعيدة عن الرّوايات الخاصة بـ«المهدي المنتظر».
فالغرض هو إحياء الدِّين، ويبتُ بما يُلفق مِن أحاديث(انظر: شرح الحديث في عون المعبود). أي ليس بمعنى الجديد «ما لا عهد لك به». إن ربط التَّجديد بجيل كامل يجعلنا نفكر بالحديث تفكيراً آخر، وهو حاجة الجيل الجديد لمسائل تناسبه، فما يناسب جيل لا يُناسب جيلاً آخر، ومنها مثلاً ما يتعلق بمعاملة النِّساء، ومعاملة غير المسلمين، أي التَّجديد في المعاملات.
دفعنا إلى الكتابة في هذا الأمر، أن وهماً يقع فيه مَن يُطالب بالتَّجديد في الفكر الإسلامي، ويجعله مناطاً برجال الدِّين أنفسهم، بينما مسألة التَّجديد بالنِّسبة لهؤلاء قد طُرحت، ومَنذ القرون الخوالي، وثبت لديهم معنى التَّجديد، بمعنى إعادة إحياء وتدوير، بينما المطلوب مِن التَّجديد الانفتاح على روح العصر، وهذا لا يؤثر بالدين كعبادة.
صحيح، أن هناك أفكاراً استجدت في السياسة السلطانية، مثلما ورد في كتب «الأحكام السلطانية»، بما يتعلق بالثورات أو ما عُبر عنها بالفتن والملاحم، وتغلب السَّلطنات على الخلافة، مثل السُّلطنتين البويهية(بدأت334هـ) والسلجوقية(بدأت447هـ)، وما حصل بين الدَّولة الفاطمية والعباسية، وما استجد في زمن المغول، وما بين الصَّفويين والعثمانيين. لكنَّ كلَّ ذلك لا يدخل في ما يُبتغى مِن التَّجديد، الذي لا يتحقق إذا لم يضع حداً فاصلاً بين السِّياسة والدِّين، فمزجهما لا يعني غير «القَديم هو الجديدُ».
يعترف أحد كبار رجال السَّلفية ابن قيم(ت751هـ) بقوة التَّغيير قائلاً: «نحن أبناء الزَّمان، والنَّاسُ بزمانهم أَشبه بآبائهم، ولكلِّ زمانٍ دولةٌ ورجالٌ »(أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين)، مع ذلك ظل التَّجديد تدويراً لما سبق، وليس تحريراً، أو تحقيقاً، «ما لا عهد لك به». إنه تدوير لا تجديد.