حين تعمد الدولة إلى التدليس! يحيى الكبيسي
ظل التدليس واحدا من الادوات المنهجية التي تعمد اليها دولنا الفاشلة لخداع الجمهور، وظل هذا التدليس يستمد ديمومته من التواطؤ الجماعي للفاعلين السياسيين معه، ومن «التسويق» غير الاخلاقي الذي يمارسه طبالو الزفة بمختلف فئاتهم، وأخيرا من استمراء الجمهور نفسه لهذا الخداع!
لقد أشرنا في مقال سابق إلى السردية الزائفة التي تم تسويقها على نطاق واسع بأن الميليشيات العاملة في العراق تحت مسمى «الحشد الشعبي»، كانت استجابة لفتوى المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، التي صدرت يوم 13 حزيران/ يونيو 2014، بعد سيطرة تنظيم الدولة/ داعش على محافظة نينوى يوم 9 من الشهر نفسه، على الرغم من ان الفتوى، التي سميت بفتوى «الجهاد الكفائي» إنما طالبت من المواطنين التطوع للانخراط في القوات الأمنية حصرا، وليس إلى تشكيل ميليشيات عقائدية! وأشرنا أيضا إلى التدليس الذي مارسه الفاعل السياسي الشيعي لاستغلال هذه الفتوى لشرعنة الميليشيات، التي كانت قائمة بشكل فعلي قبل الفتوى! وإلى أن ثمة قرارا كان قد صدرت عن «الحكومة العراقية المفترضة قبل الفتوى بيومين (قرار مجلس الوزراء المرقم 301 بتاريخ 11 حزيران/ يونيو 2014) تحدث عن تنظيم «صفوف المتطوعين وصرف رواتبهم وتجهيزاتهم»!
كان لزاما ان يستتبع هذا التدليس الصريح على الفتوى، تدليس رسمي آخر يشرعن هذه الميليشيات، هكذا أصدر رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي أمرين ديوانيين (رقم 47 و48 بتاريخ 18 حزيران/ يونيو 2014) استحدث في الأول «هيئة الحشد الشعبي» ترتبط برئاسة مجلس الوزراء وليس بالقوات المسلحة! وجعل الثاني الهيئة مؤسسة عسكرية موازية للقوات المسلحة لها موازنة وتخصيصات مالية! هذه المرة كنا أمام تدليس صريح على الدستور والقانون! فالدستور العراقي يقرر ان الهيئات المستقلة لا يمكن تشكيلها إلا بقانون يصدر عن مجلس النواب (المادة 108)، ويقرر أيضا انه يحظر تشكيل مليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة (المادة 9/ب)، كما يقرر أن مجلس النواب هو صاحب الاختصاص الحصري بإقرار الموازنة العامة للدولة (المادة 62).
بعد هذا التدليس «الرسمي» الحكومي، كان لا بد من تدليس آخر، رسمي أيضا، عبر مجلس النواب هذه المرة! فاستنادا إلى قرار مجلس الوزراء بتفريغ موظفي الدولة بالعمل ضمن «الحشد الشعبي» (القرار رقم 197 لسنة 2015)، صدرت موافقة رئاسة مجلس النواب على «تفريغ» بعض النواب للحشد الشعبي، وصدر كتاب رسمي بذلك! وليس مهما هنا ان هذا «التفريغ» ينتهك احكام الدستور العراقي الذي قرر أنه «لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس النواب، وأي عمل، او منصب رسمي آخر» (المادة 49/ سادسا)، وهي المادة التي جاءت مطلقة وبالتالي يفترض أن يؤخذ الاطلاق على إطلاقه! كما ليس مهما أن ينتهك الحظر الدستوري على القوات المسلحة بأنها يجب أن «لا تتدخل بالشؤون السياسية، ولا دور لها في تداول السلطة»، وانه لا يجوز لأفراد هذه القوات «الترشيح لانتخابات لإشغال مراكز سياسية» (المادة 9/ج) فالدستور الذي يمنع تداخل السياسي بالعسكري، يتم التدليس عليه بان يعطى لنوابه أدوارا عسكرية. وأخيرا ليس مهما أيضا أن يمرر مجلس النواب نفسه قانون الموازنة العامة للدولة لسنتين متتاليتين (2015، 2016)، مع تخصيصات «لهيئة الحشد الشعبي» من دون أن يكون لها قانون يشرعن وجودها أصلا!
في متوالية التدليس هذه تم تمرير قانون «هيئة الحشد الشعبي» الذي تضمن ثلاث مواد فقط، من خلال موافقة شيعية تامة، ورفض سني شبه كامل، وانقسام كردي! وقد تضمن نص القانون المهلهل تناقضات صارخة، من بينها عد الهيئة «تشكيلا عسكريا مستقلا» و «ذات شخصية معنوية»، ولكنها في الوقت نفسه «جزءا من القوات المسلحة»! وغير مرتبطة بوزارة الدفاع بل ترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة في مخالفة صريحة لقانون وزارة الدفاع العراقية الذي عرف «القوات المسلحة العراقية» بانها القوات التابعة لوزارة الدفاع حصرا (أمر رقم 67 لسنة 2004)! وقد وجدنا مجلس النواب نفسه يتعامل مع «الامر الواقع» الذي تفرضه علاقات القوة وليس مع الأطر الدستورية والقانونية، فنجده يصدر قانون الموازنة العامة لعام 2017 يخصص فيه لهيئة الحشد الشعبي ميزانية مستقلة عن ميزانية «القوات المسلحة» في معضلة منطقية في التعاطي مع الجزء بوصفه كلا مستقلا عن الكل الذي هي جزء منه!
استمرارا مع منهجية التدليس، لم يتم الالتزام مطلقا بالمهل الزمنية التي حددها القانون المفترض الذي قرر أن بنية الحشد الشعبي الجديدة تتألف من الجهات التي ستقبل بفك ارتباطها بكافة الاطر السياسية والحزبية والاجتماعية، ووضع سقفا زمنيا لفك الارتباط مدته ثلاثة أشهر! ولكن لم يتم الالتزام مطلقا بذلك! فقد بقيت الميليشيات الحزبية نفسها قائمة مع تغيير شكلي بإعادة تسميتها وفق ألوية مرقمة، من دون أي تغيير حقيقي في بنية هذه الميليشيات، او ارتباطاتها!
طوال الأشهر الماضية، تحديدا بعد تمرير قانون الامر الواقع المتعلق بهيئة الحشد الشعبي، تعكزت الدولة العراقية على القانون للحديث عن «حشد شعبي» قانوني، وان هذا الحشد جزء من القوات المسلحة العراقية، وقد كان رئيس مجلس الوزراء الدكتور حيدر العبادي الأكثر تسويقا لهذه السردية الزائفة، على الرغم من ان الوقائع على الأرض تدحض تماما هذه السردية! فما زال هناك أكثر من 17 نائبا ينتمون لأحزاب سياسية، وبالتالي سياسيون، لديهم مواقع قيادية في هذه الميليشيات من دون أي محاولة للتغطية على هذا الانتهاك الدستوري والقانوني الصريح بشأن التداخل بين العسكري والسياسي! كما ما زالت هذه الميليشيات تعلن عن نفسها كميليشيات بعيدا عن الدولة. ففي حادثة صدام مسلح بين القوات الأمنية العراقية وأفراد من مليشيا عصائب اهل الحق في بغداد، وصف قائد هذه المليشيا قيس الخزعلي هؤلاء الأفراد بأنهم «من الناحية العسكرية ينتمون إلى الحشد الشعبي ومن الناحية التنظيمية ينتمون إلى عصائب أهل الحق»! من دون ان ينتبه إلى انه بهذا التصريح إنما يفضح حقيقة التدليس الذي يسوقه الجميع! في حادثة لاحقة أصدرت ميليشيا «كتائب سيد الشهداء» بيانا اتهمت فيه الولايات المتحدة بانها قصفت يوم 7 آب/ اغسطس 2017 مواقع «مجاهديها» من «أبناء الحشد الشعبي وأبناء المرجعية التي أفتت بالجهاد الكفائي» قرب عكاشات في صحراء الانبار، ودعت فيه «السلطات المختصة ولا سيما الحكومة العراقية إلى فتح تحقيق»، وأخيرا دعت «إلى عقد اجتماع عاجل لقادة فصائل المقاومة الإسلامية في العراق لتدارس الرد المناسب»! من دون ان ينبههم أحد كما يبدو إلى ان هذا البيان يفضح المستور، ويكشف بشكل صارخ أنهم ينظرون إلى أنفسهم خارج إطار الدولة نفسها، بل يضعون أنفسهم، مع الميليشيات الاخرى بموازاة هذه الدولة عندما يطالبون باجتماع خاص بهم كزعماء ميليشيات لتدارس الرد المناسب!
كان الرئيس الأسبق صدام حسين قد عرف القانون بانه «مجرد سطر نكتبه ونمسحه»! ومن الواضح أن القائمين على الدولة في العراق، جميعا من دون اي استثناء، ما زالوا يؤمنون بهذه المقولة. وهو ما يثبت أن التغيير الذي حصل في عام 2003 لم يكن سوى تغيير إيديولوجي من جهة، وتغيير على مستوى الهويات الفرعية المهيمنة على الدولة من جهة ثانية، مع بقاء الذهنيات الحاكمة للطبقة السياسية التي لا ترى في الدستور او القانون سوى سطر يكتبه القابضون على السلطة، يستخدمونه، أو يؤولونه، أو يدلسون عليه، او يمسحونه كما يشاؤون!