تفسخ العقد الاجتماعي العربي د. مصعب قاسم عزاوي

أشارت مجلة فورين بوليسي إلى أن «مشروع رؤية السعودية 2030 يهدد بتحلل العقد الاجتماعي الذي يربط آل سعود بالشعب السعودي»، وهو العقد الاجتماعي الذي وصفه محرر صحيفة الاندبندت بأنه عقد اجتماعي غير معلن قائم على قبول انعدام الحريات السياسية مقابل الحصول على حصة من ثروات البلد النفطية من خلال الوظائف الحكومية ودعم المحروقات، والغذاء، والسكن وغيرها من الامتيازات الاجتماعية المدعومة من قبل الدولة. وذلك العقد الاجتماعي مهدد فعلياً بالتداعي الشمشوني الذي أفصح عن نفسه بفجاجة في تقرير صندوق النقد الدولي الأخير الذي تنبّأ بإفلاس الدولة السعودية حوالي العام 2020، والذي يتسق في سياق توصيفه للزوبعة الاقتصادية في الخليج العربي مع محتوى منطوق مشروع «رؤية السعودية 2030» الذي يمثل فعلياً برنامج عمل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي ينطوي فيما ينطوي على هدف زيادة الدين الحكومي للدولة بما يقارب 200 مليار دولار خلال السنوات الأربع المقبلة دون الإيماء إلى المصدر العياني المشخص و ليس الافتراضي الذي سوف يتم به سداد تلك الديون سوى خصخصة شركة النفط السعودية أرامكو المصدر شبه الأوحد لدخل المملكة! وهو ما ينقلنا عفوياً للتفكر في المحاور الأخرى لتلك الرؤية المتعلقة بتبني نموذج «الصدمة الاقتصادية الاجتماعية» وفق تعبير الصحافية المرموقة ناومي كلاين، عبر تحول مفاجئ من نموذج دولة الرفاه الريعية إلى نموذج الاقتصاد النيوليبرالي المتوحش الذي يتضاءل فيه دور الدولة إلى حد كبير، ويتحول المجتمع فيه إلى نموذج دارويني مسخ من الغابة التي لا بقاء فيها إلا للأصلح و» لا حق للمواطن فيها سوى الذي يستطيع اجتراحه وفق قوانين السوق» باستعارة توصيف المفكر نعوم تشومسكي؛ وهو ما سوف يحول مواطني ذلك المجتمع إلى نموذج من العبيد المأجورين الذين لا خيار لهم سوى بيع قوة عملهم للبقاء على قيد الحياة إن استطاعوا ذلك سبيلاً.
وعلى المقلب الآخر من تهاوي نمط العقد الاجتماعي العربي خليجياً، فهناك نموذج عربي آخر مشارقي ومغاربي قام تاريخياً وتكوينياً على خلطات عجائبية في اللفيف المتفارق لمكوناتها التي ظلت تتلون حربائياً حسب الحاجة الشعبوية الآنية، فكانت تارة قومية وحدوية تحررية اشتراكية على طريقة التلفيقات الهرائية للنظم البعثية في سوريا والعراق سابقاً، أو إرادوية قافزة فوق شروط التاريخ، ومغرقة في إقرارها بخوائها المعرفي الذي أفضى إلى تحول السياسة إلى فن التجريب لاستكشاف الصواب من الزلل، وإيغالها في الإعلاء اللفظي الأجوف لجعجعة المعركة الوجودية مع العدو الصهيوني على كل ما له علاقة ببناء المجتمع المدني، وتوطيد مفهوم ممارسة السياسة في المجتمع؛ على طريقة الضباط المصريين الأحرار، و ما أفرزوه من صلبهم في نكسة حزيران/يونيو، وما تلاها من انزلاقات للسادات الذي لم يكن إلا جزءاً بنيوياً منهم في منظور كل من لم يستمرئ عضال فقدان الذاكرة التاريخية.
وإذا انتقلنا من التوصيف التكويني لنماذج المجتمعات العربية الأخرى غير تلك القائمة على عماد البترودولار والاقتصادات الريعية المعتمدة على استخراج الثروات الآيلة للنضوب، فإننا لا نستطيع إلا استقراء حقيقة أن معظم دولها عبارة عن هياكل شكلية لدول فاشلة تنتظر أوان تداعي أركانها الذي مازال يؤجله عنصران وحيدان رئيسيان يتمظهران بأشكال متباينة الشدة والحدة دون أن يغير ذلك من جوهرهما الضمني الراسخ في بنيات تلك الدول الفاشلة مع وقف التنفيذ. وللطرافة فإن نقيضي ذلك العنصرين هما الدعامتان اللتان تم تأسيس وقيام الدولة الأمة بمفهومها وكياناتها في الغرب المعاصر عليهما وفق تعريف الفيلسوف توماس هوبز، ومثلا المرتكزين الأساسيين في فكر مونتيسكيو مفكر النهضة الاجتماعية والدولة الحديثة غربياً، و إلى حد كبير لدى جان جاك روسو صاحب نظرية «العقد الاجتماعي» الغائب عربياً.
وأول العنصرين الأخيرين، هو مفهوم الدولة بوصفها جابي الضرائب الممثل لعموم المتعاقدين في ذلك العقد الاجتماعي الذي اسمه الوطن أو الدولة أو الأمة، لتقوم من خلاله بإعادة توظيف جباياتها خدماتٍ بين المواطنين تعزز قبولهم ورضاهم بما تعاقدوا عليه. وثاني ذينك العنصرين هو الجيش الوطني الذي بانخراط كل الفئات الاجتماعية الاقتصادية المتشاركة في ذلك العقد الاجتماعي في نسيجه؛ بفقرائهم، و أغنيائهم، وعامتهم، ونبلائهم للدفاع عن كينونته، والمنافع التي يجلبها للمتعاقدين فيه بحفظه من التداعي و الاندثار، يسهم بتشكيل هوية وطنية جامعة عنوانها الدولة الأمة أو الوطن ظاهرياً، وهو في الحقيقة العقد الاجتماعي الذي يعبر عنه ذلك الأخير.
وقد لا نزيد القارئ إلا غماً بتذكر كيف تحولت نظم الفساد والإفساد العربية من محتسب يعمل للصالح العام إلى جابي ضرائب الهدف منها تعزيز سلطة الفئات الحاكمة عبر توطيد وترسيخ آليات نهبها الوحشي للمجتمع، ودعم الفئات الطفيلية المسؤولة عن الحفاظ على إمكانياتها اللامحدودة في الاستئساد على المواطنين، وهو ما أفصح عن نفسه في تعملق الأجهزة الأمنية العربية التي لا همّ لها إلا حماية الأنظمة من شعوبها، حتى أصبح في العديد من البلدان العربية القطاع الحكومي الأكبر فيها هو للعسس والمخابرات بمختلف إصداراتهم وأسمائهم الفنية التي لا تغير من جوهرهم الوظيفي القمعي شيئاً.
وفيما يرتبط بالجيوش العربية الفاشلة عمقاً وسطحاً وعمودياً وأفقياً منذ هزائم النكبة، والنكسة، وحرب أكتوبر الموؤودة، التي لم يحرر فيها العرب إلا إرادة الصمود والتصدي، وما تلاها من احتراب مهول وعداوات بين الأشقاء والجيران على طريقة حرب اليمن التي أودت بنظام عبد الناصر، والطلاق الوحشي البائن بين نظم بعثيي سوريا و العراق، والاحتلال السوري للبنان، و فجيعة أيلول الأسود، وغزو الكويت الذي أدى إلى العراق المهيض الجناح وتبدد ثروات الخليج العربي، و مغامرات القذافي في غير موضع عربي وأفريقي، وبتر جنوب السودان عن شماله، والفراق السرمدي بين المغرب والجزائر الذي مازال يبرر إنفاقاً بعشرات مليارات الدولارات لشراء أسلحة لحرب تنتظر أوان وقوعها بين الشقيقين. وهو ما أدى في مجمله لتحول فريد في الجيوش العربية عبر تنكسها لتصبح شكلاً من الأجهزة الأمنية مهمته التدخل لحفظ منظومات الفساد والإفساد العربية الحاكمة إن أخفقت فيالق مخابراتها بلجم مواطنيها عبر أقبية التعذيب فيها، وأسلحتها الخفيفة، لتأتي دبابات الجيش وطائراته للقيام بذلك بتركيع الشعب المقهور بدل الدفاع عنه.
ولا عجب فعلاً في أن يقود اندثار كل ما يمت بصلة إلى بقايا العقد الاجتماعي في مشرق و مغرب أرض العرب إلى تنكس كل البنيات الاجتماعية العربية، ونكوصها إلى مرجعيات ما قبل وطنية قبلية، أو إثنية، أو مناطقية، أو طائفية، أو مذهبية، وما إلى ذلك من أشكال مسخة من المجتمعات المتفسخة التي ليس فيها ما يجمع المتواجدين ضمنها في عين الزمان والمكان سوى حظهم العاثر وتشاركهم في التحسر على ما هم فيه من كبد وكمد سرمديين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *