العبور إلى بوابة الاعتدال وعروبة العراق العرب د. ماجد السامرائي رصد عراقيون
الخطوات المتبادلة بين القيادة السعودية والقيادات الشيعية العراقية المعتدلة تنهي دور الوسطاء من بعض القيادات السنية التي اشتغلت على محنة طائفتها لمنافعها الشخصية.
مهما يقال من مواقف وتحليلات بشأن مواقف السيد مقتدى الصدر بأنها غير ثابتة في تصديه للفساد ومواجهة التخندق الطائفي في العراق، فإن مسلسل مواقفه يشير إلى أنه أكثر الأطراف السياسية الشيعية مرونة في التعاطي مع القضية الوطنية العراقية وأن تلك المواقف وبصورة غير مباشرة يمكن أن تحدث ثغرة سياسية في جدار التشدّد والاستبداد والتطرف الطائفي عند معظم الحركات والأحزاب الشيعية في العراق.
المواقف المتصاعدة لدى بعض القوى الشيعية التي تسعى لأن تنأى بنفسها عن إيران وتدعو إلى استقلالية الموقف العراقي، يمكن البناء عليها في تحقيق بدايات لنهاية عهد التطرف والتهميش والإقصاء السياسي، والانتقال التدريجي إلى حل الأزمة السياسية الخانقة وتحرر العراق من عزلته مع محيطه العربي، فيما يقابلها انسداد وتضاؤل وانحسار لمواقف التشدد الطائفي السني ونزعات بعض قواه “المتطرفة” المدعومة من أجندات إقليمية.
وليس من باب العقدة تجاه إيران أو التضخيم من نفوذها في العراق القول إن هذه القضية شكّلت حتى الآن أهم أزمات الوضع السياسي العراقي في غياب الحالة الوطنية العراقية وتغليب الهوّية الوطنية على الهويات الطائفية والعرقية وسيادة نزعات التطرف والعنف والكراهية وتشظي المجتمع العراقي الواحد. وهذا لا يعني أيضا إطلاق أحكام صارمة تدعو إلى فك نهائي لعلاقة الحركات والأحزاب الشيعية العراقية بطهران. فهذا الأمر من باب المستحيلات، فبين تلك الحركات ما نشأ وترعرع برعاية إيرانية، بل إن بعض التشكيلات المسلحة مثل المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة الراحل محمد باقر الحكيم ما وضعته طهران في مواجهة عسكرية قتالية مباشرة ضد العراق ونظامه خلال الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988. كما أنه ليس من المعقول الطلب من الأحزاب والحركات التخلي عن مذهبيتها الشيعية، فتلك قاعدة أيديولوجية جوهرية تعتز وتتمسك بها تلك الأحزاب وهي شعارها الأيديولوجي والتعبوي الأول تجاه جمهورها الشيعي، رغم ما تواجهه من استحقاقات متعلقة بالإسلام السياسي الذي أصبحت الشكوك تدور حوله، إضافة إلى المستوى الخطير الذي وصل إليه الشعب العراقي من تشريد وفقر وتخلف وغياب خدمات بسبب الفساد الذي غطت على إمبراطوريته تلك الأحزاب الإسلامية، ومن نتائج كارثية قدمتها تلك السياسات غير المنصفة تجاه قطاع واسع من المجتمع العراقي وفي مقدمتهم العرب السنة إضافة إلى الشيعة.
فالمطلوب من تلك الأحزاب تعديل سياساتها التي لم تضر بالعرب السنة فحسب وهمّشتهم وأهانت كرامات رجالهم ونسائهم، وإنما خلفت أضرارا بأبناء الشيعة أيضا. هناك متغيرات جدية ومهمة لمرحلة ما بعد داعش تمسّ المناهج والسياسات التي حكمت العراق خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، وقد تطيح بمكانة الأحزاب الحاكمة ومستقبلها ما يفرض عليها لكي تحافظ على وجودها السياسي التخلي عن مفاصل مهمة وأساسية في مناهجها، وفي مقدمتها مغادرة سياسات التطرف والتمييز الطائفي وعزل العراق عن محيطه العروبي واستعادة هذا البلد لمكانته التاريخية كدولة وكيان.
من هنا نلاحظ مظاهر حراك سياسي وإن بدا مشتّتا غير واضح المعالم، وقد يرى البعض أنه يدور في ذات الفلك الطائفي التقليدي وسينتج ذات مراكز القوى، لكنه سيقود إلى الانفراج لصالح تطور سياسي يعيد بعضا من التوازنات المفقودة في الوضع العام. وهو يتمثل بدعوات تبدو مشجعة من داخل الحزب الحاكم الرئيسي حزب الدعوة ومن أحد قادته الأساسيين رئيس الوزراء حيدر العبادي في محاولاته إشاعة الاعتدال السياسي وفتح بوابة العراق إلى العرب، وبصورة مباشرة مع السعودية رغم عدم ارتياح طهران ورفيقها في الدرب نوري المالكي لمثل هذا المنهج، كذلك تأتي الزيارة التي بدت مفاجئة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر للسعودية قبل عدة أيام، والتي فتحت النوافذ لما يمكن اعتباره العبور نحو الاعتدال وعروبة العراق، خاصة لما أحيط بها من تعليقات ومواقف وهواجس محلية وإيرانية من أن تشكل هذه الخطوة وغيرها من زيارات مرتقبة لقادة من الشيعة كرة ثلج تتقدم نحو الانفراج إذا ما حافظت على حيويتها وسلامتها وتواصلها مع سياسات أخرى قد تنهض بها قوى من داخل البيت الشيعي، الذي سبق وأن سلطت حوله الأحكام بعدم إمكانية تحول بعض قادته إلى المنهج الوطني العراقي.
شنّت صحف ووسائل إعلام شيعية محلية وإقليمية هجوما على الصدر، مثل وصف خطوته من قبل صحيفة الأخبار اللبنانية المقرّبة من حزب الله “بأنه خرج عن سرب القوى المتحالفة مع إيران ويريد البحث عن حليف إقليمي يقوّي حظوظه في تحقيق مشروعه السيـاسي” أو أن الخطوة هي “وداع صدري لطهران” خصوصا أن هذه الأوساط تتذكر الشعار الذي رفعه أنصاره على أبواب المنطقة الخضراء العام الماضي “إيران برا برا”، والتي حاول الصدر تبريرها لزعماء إيران “بأنها صدرت عن الجهلة من أتباعه”.
وليس من الغريب أن يتم عبر وسائل الإعلام الشيعية خاصة تداول قضية نفوذ إيران وعلاقة الأحزاب السياسية معها كجانب محوري في مظاهر الحراك الجديدة. ولعل تفصيلات حيثيات الزيارة المذكورة تشير إلى أن السعودية هي من فتح الأبواب للسياسيين العراقيين، وأبدت استعدادها لمعاونة العراق في ظروفه الاقتصادية الطارئة في ميدان إعادة الإعمار ومساعدة النازحين في المناطق التي طرد منها داعش، والقيام بخطوات عملية في فتح المعابر الحدودية والفضاء الجوي بين البلدين الشقيقين.
لا شك أن المشروع السعودي الحالي في الانفتاح على القيادات الشيعية في العراق يقلل من زخم شكوك وسائل الإعلام المغرضة التي لا تريد للعراق أن يستعين بأشقائه ذوي الإمكانيات المادية والاعتبارية الكبيرة كالسعودية المحتفظة بعلاقات متميزة مع الدول الكبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبا، وكون أرضها تحتضن الكعبة المشّرفة قبلة المسلمين في العالم. كما قد تزيل من أذهان البعض بعض الاتهامات القائلة إن السعودية تقيم علاقاتها مع العراق على أساس طائفي ومن خلال الزعامات السنية، أو إن بعض الأوساط داخل السعودية هي التي تموّل وتدعم الإرهاب. فالحقائق تثبت أن السعودية تواجه قوى التطرف والإرهاب وهي تتحرك الآن بجدية مع المحيط الدولي لمكافحتها، وأزمتها مع قطر ومعها كل من الإمارات والبحرين ومصر دليل على ذلك.
هذه الخطوات المتبادلة بين القيادة السعودية والقيادات الشيعية العراقية المعتدلة تنهي دور الوسطاء من بعض القيادات السنية التي اشتغلت على محنة طائفتها لمنافعها الشخصية. لقد حان الوقت لبناء الجسور العملية الخادمة لمصالح العراق أولا، وهذه لا تريح إيران أيضا التي كسبت كثيرا من مهمة عزل العراق لمصالحها العقائدية والاقتصادية.
لا شك أن خطوة السعودية وبعد الاستجابة الواعية من قبل الزعامات الشيعية مثل الصدر أو العبادي أو عمار الحكيم، إذا ما تحققت زيارته، ستخدمهم في مشروعهم الاعتدالي المتوقع في زحمة ما يحصل اليوم في الساحة السياسية العراقية، وقد يأتي اليوم الذي يخفف فيه المالكي من لهجته التصعيدية إذا ما وجد فيها مصلحة ومناورة سياسية انتخابية له. لكن لا بد من ألا تكون هذه الخطوات من القادة الشيعة في العراق بروتوكولية موسمية أو لأغراض دعائية، فلا بد أن ترتبط هذه اللمسات السياسية بالدعوة إلى مشروع شيعي عراقي مستقل للخروج من المأزق الذي وقعت فيه تلك القوى طيلة أربع عشرة سنة، بالتخلي عن السياسات التي فرّقت بين الشيعي والسني وأوقعت الأذى بعموم شعب العراق، والعمل الجاد من قبل قوى الاعتدال الشيعية لمعالجة وضع النظام السياسي القائم وتحوله إلى نظام مدني تعددي لا إقصائي يجعل الهوية الوطنية بديلا عن هوية الطائفة والعرق، من خلال استبدال آليات العملية السياسية الحالية (الانتخابات) ويؤسس لحوار وطني حقيقي لا بتقسيمات طائفية، سنية وشيعية، وإنما بالانفتاح على القوى والشخصيات الوطنية النظيفة من بين الشيعة والسنية وهم كثر، وهناك جمهور عراقي واسع من السنة والشيعة سيلتف حول هذا المشروع وأصحابه.
كاتب عراقي