ماذا تعلم سنة العراق من تجربة داعش المريرة / أسعد البصري  / رصد عراقيون

 

الذي يهدم حلب والموصل المفروض أن يهدأ ويكتفي بهذا القدر، لكن إيران جريئة من سوريا إلى العراق إلى البحرين إلى الكويت إلى لبنان إلى المنطقة الشرقية السعودية إلى اليمن. هناك شغل مستمر دون توقف.

 

العقل الإيراني لعب مع العقل العربي السني العراقي لعبة مصارعة الثيران الإسبانية. كان الإيراني مصارعا ماهرا يغرز الرماح في ظهر الثور السني الهائج حتى يسقط الثور غارقا في دمائه. لم تنفعه قرونه المخيفة ولا البخار الذي كان يخرج من منخريه. ولم تنفعه حوافره الثقيلة التي كانت تهز الأرض بغضب.

 

بماذا يختلف العقل السياسي الإيراني عن العقل السياسي العربي؟ بصراحة هناك جرأة كبيرة، فالذي يهدم حلب والموصل المفروض أن يهدأ ويكتفي بهذا القدر، لكن إيران جريئة من سوريا إلى العراق إلى البحرين إلى الكويت إلى لبنان إلى المنطقة الشرقية السعودية إلى اليمن. هناك شغل مستمر دون توقف.

 

يقسّم الجابري العقل العربي إلى ثلاثة أقسام؛ العقل البياني الذي يعتمد الفصاحة مثل داعش، والعقل الغنوصي العرفاني مثل الخمينية، وأخيرا العقل البرهاني الفلسفي. في العراق هناك صراع بين عقل بياني وعقل غنوصي لهذا لا يوجد جدل ثقافي، بل مجرد قتال بين عقلين شقيين مستقيلين ميؤوس من كليهما.

 

كيف تنجح محاصصة سياسية في العراق بين عقلين مختلفين إلى هذه الدرجة؟ عقليتان تنفي إحداهما الأخرى جوهريا بسبب الخرافات والتطرف. اللقاء بينهما يكون بالخروج من الغنوص والبيان نحو العقل البرهاني البراغماتي. أي لا بد لنا من العلمانية لتكون هناك دولة ناجحة. وهذا ما يتطلب دعما من السعودية كما فعلت في حالة مصر.

 

لا نستطيع معالجة البنية الفوقية دون معالجة حقيقية للبنية التحتية. إن دعم الثقافة وتشجيع التنوير والتصدي للفكر الغيبي تعتبر نشاطا فوقيا. البنية التحتية التي هي الأمان والاقتصاد يجب إصلاحهما أولا. فلن نجد التأثير المناسب في بث الفكر التنويري لشعب مشرّد يتعرض للانتهاكات والتهميش ويعيش البؤس والحرمان في المخيّمات.

 

العلمانية هي تشجيع الناس على الرفاه والاستمتاع بحياتهم الشخصية. وحين تكون الحياة قلقة وبائسة لا يعود لهذه الدعوة أي معنى، على العكس سيكون الناس مستعدين لإعادة إنتاج الفكر الديني المتطرف من جديد. فالإسلام السياسي يعدهم بحياة أخرى أفضل من هذه الحياة الفانية ويساعدهم على احتمال آلامهم وبؤسهم.

 

الدرس الأول الذي تعلمناه هو أن داعش جعلنا لا نثق بالعاطفة. كل عاطفة صارت بالنسبة إلينا مخيفة. الدرس الثاني علّمنا أن كل ما لا نتخيّله يمكن أن يحدث. فمن كان يتخيل هدم المدن العربية وذبح الناس بعشرات الآلاف. الكل حذر اليوم من العاطفة المباشرة. إن العقل العربي حوصر تماما. لم يعد ممكنا الاستمرار بعاطفته القديمة التي عاشت معه كل تلك القرون. حماسته التي لم تنفعه في شيء.

 

ثم إنني لا أفهم لماذا هذه الخدعة الثقافية العراقية؛ ما علاقتنا بمعركة القادسية واليرموك وما علاقتنا بالدولة الأموية والعباسية. هل تعرف أن تاريخك الحقيقي هو أربعة قرون من الحكم العثماني التركي، وقرون من الهيمنة الثقافية الصفوية والإيرانية. حتى الصفويون احتلوا بغداد بقيادة الشاه إسماعيل الأول سنة 1508 وبقيت حتى سنة 1534 فأعاد احتلالها سليمان القانوني التركي. لم نر الحرية كعراقيين عرب إلا على يد الإنكليز.

 

مشكلة الهزيمة الطائفية أنها هزيمة ثقافية كبيرة خصوصا في مجتمع منقسم بشكل حاد. وعلى قدر ما يكون المهزومون متلهّفين لتفسيرات فكرية كما حدث لسنّة العراق، فإنهم حذرون ومتشككون من قبول التفسيرات التي يقدمها المثقفون الشيعة

 

نعيش هناك في ذي قار والقادسية واليرموك، تاريخ قديم غير واقعي ما قبل العصور الحجرية ونهمل حياة آبائنا وأجدادنا الحقيقيين، الرعاة والفلاحين وضحايا الإقطاع التركي والكسبة والحرفيين في بغداد القديمة، ضحايا الاضطهاد والفقر والأكواخ وشلل الأطفال وسوء التغذية والأوبئة.

 

الإنكليز منحوا العراق علما ودولة مستقلة وأطلقنا عليه وطنا. ماذا نفعل بالوطن؟ أليس لكي نعيش جيّدا ونفرح بكركرات بناتنا وندلّل زوجاتنا ونعاملهن بلطف؟ لماذا صدام حسين لم يكن يرى في الوطن إلا ذلك التراب الذي يرتوي بدمائنا؟ لماذا الشيعة لا يرون فيه سوى حكاية الحسين والشهادة؟ لماذا داعش لا يرى في الوطن سوى بدعة وكفر ويدعو الناس إلى الجنة بتفجير أنفسهم؟

 

كيف يتآمر علينا الإنكليز مثلا؟ بحفرهم تحت أرضنا واستخراج ثروة نفطية لا علم لنا بها؟ بتعليمنا في المدارس؟ بمنح شهادات الطب لشبابنا؟ بحفر الأرض واستخراج ملحمة كلكامش وبوابة بابل والثيران المجنّحة وآشور؟ كل ما كنا نعرفه عن التاريخ القديم هو قوم عاد وثمود وأصحاب الأخدود.

 

هل يتآمر الغرب علينا بعلاج الكوليرا والسل والتايفويد والرمد؟ أم يتآمر علينا بتحريرنا من الفرس والترك والعصور المظلمة؟ من المسؤول عن تأبيد وعينا في مرحلة تاريخية بعيدة جدا قبل 1500 سنة؟ ومن المسؤول عن كراهيتنا للغرب والحضارة والتنوير؟

 

قالت المسيحية إن الرب هو أبونا في السماوات. وإذا كان أبا سيسامح وسيكون مكتوبا عليه الرحمة. لقد كان كازانتزاكيس يقول بأنه تأثر بالمسيحية بسبب مقدار المحبة فيها لأنه حين يقرأ التوراة (العهد القديم) يتخيل الرب على صورته اليهودية كعملاق غاضب يجوب المجرات وحيدا وفِي حزامه بلطة تقطر دما. لا بد أن تكون هناك تفسيرات للحياة من خلال المحبة والتسامح وليس من خلال الكراهية والدماء.

 

في مراحل معيّنة حين يعاني الناس من عدم الفهم وتصعب عليهم الثقة بأحد تصبح الكتابة ضرورية كالخبز. سنّة العراق مروا بهذه المرحلة وكانت هناك انتقالة عنيفة أكبر من قدرتهم على الفهم ولكي يلحق الوعي بالواقع لا بد من تفسير ميداني له وإلا يحدث اغتراب، تكون مهمة الكتابة إصلاح العقول أكثر من إصلاح الواقع، وهذا سبب إقبال الشباب على الكتابة الفكرية. إن التحول يجب أن يعانيه الكاتب مع الناس ويكتب من داخله حتى يكون هناك تواصل مقنع مع القارئ، فالإنسان يريد أن يفهم ليرتاح بالنهاية.

 

مشكلة الهزيمة الطائفية أنها هزيمة ثقافية كبيرة خصوصا في مجتمع منقسم بشكل حاد. وعلى قدر ما يكون المهزومون متلهّفين لتفسيرات فكرية كما حدث لسنّة العراق، فإنهم حذرون ومتشككون من قبول التفسيرات التي يقدمها المثقفون الشيعة. ففي هذه الحالة يخاف المهزوم من أن يجرّده المنتصر من كل شيء حتى من كرامة العقل.

 

يخشى من أنه سيشرب الماء مسموما من يد أعدائه. وهذه مشكلة الصراعات المذهبية التي تسبب حالة من انعدام الثقة ولا بد من مثقفين من ذات الطائفة يقدمون لها هذا النوع من التفسير في المراحل الحرجة والمصيرية. إنها مسألة مؤقتة بسبب جرح الهزيمة السياسية. اعتقد أن الأمور ستتغير بعد تجاوز هذا الكارثة الوطنية العراقية.

 

حدثت مشكلة من نوع خاص بسبب داعش. فقد صار مطلوبا فجأة من سنّة العراق الخروج بتفسير علماني. تم إغلاق كل المخارج الدينية وللأسف بسبب الصراع المذهبي الطويل معظم الثقافة السنية كانت دينية. حتى الثقافة القومية والبعثية كانت قد ذابت في الوعي الديني.

 

المقالات الأجنبية المبثوثة تنتج أفكارا سياسية، فليس من مهمة الأميركي إنتاج حلول فكرية خاصة بسنة العراق، هذه مهمة تقع على عاتق الثقافة نفسها. أي أن عليهم إنتاج فكر لا ديني من خلال ثقافتهم وعاطفتهم نفسها. وكان ذلك التحول صعبا، فالفهم الديني للعالم كان مسيطرا. إن الكتابة الفلسفية بلغة مفهومة قضية ليست سهلة والمفاجئ إقبال الناس على هذا الأسلوب بشكل لم نتوقعه. كان من دواعي سروري أن أتلقى رسالة من داخل المعاناة الفكرية العاصفة بسنّة العراق كتبها مثقف عراقي من محافظة صلاح الدين تعكس مقدار القلق والتوتر والمعاناة التي يمر بها العقل السنّي العراقي بعد صدمة داعش يقول فيها “إن داعش هو المأزق الإسلامي الأكبر فقد أفقد العقل السنّي المبادرة. يقف على أرضية قوية وهو الإسلام الأصولي وهو مرتبك أمامه بين الوطنية والدينية المضادة. داعش يقاتل هذا العقل كمرتد، وهو يقاتله كفرقة خارجية وهو يعلم أنه ليست كذلك. لا يجرؤ على تكفيره لأنه يؤمن بمبادئه، ويختلف معه على التفاصيل. كيف أؤمن بمبادئك وأقاتلك لأنك طبقتها؟ داعش هو التجسيد الحي للفصام الإسلامي المعاصر بين النظرية والتطبيق”.

 

ويضيف المثقف العراقي “أخطر جوانب هذا المأزق يتعلق بعلاقة المسلمين بغيرهم (المسيح، الصابئة الإيزيديين) فماذا ستجيب إذا سألك أحد من هؤلاء عن إيمانك بالسبي والجزية؟ هل ستقول إنك مؤمن بها ولكن داعش أساء التطبيق؟ كيف يكون تطبيق الجريمة تطبيقا حسنا يا ترى؟”.

 

مأزق مركب لا خروج منه إلا بالتأويل الذي يضرّ بالحقيقة الدينية ولكن يخدم الحقيقة الإنسانية والمسلم في النهاية يريد الجنة وليس الإنسانية. إن الاعتدال والتطرف مصطلحان دخيلان على القاموس الإسلامي. فالإسلام يعبر عن نفسه باصطلاحاته الخاصة التي تواضع عليها المسلمون. يؤمن بالوسطية وهذه تعني أنه وسط بين اليهود الذين أنكروا المسيح وقتلوه وبين المسيحيين الذين أنكروا محمدا، فهو يؤمن بجميع النبوات السابقة والأديان قبل تحريفها.

 

ليت الإسلام كان مجرد تأريخ! حين قرر الفقهاء أن العبادات توقيفية. هم في الحقيقة جمّدوا وجودنا عند اللحظة الإسلامية الأولى. ولذلك كل صراعاتنا الخارجية هي “يرموك” بثوب آخر. وكل صراعاتنا البينية هي “جمل” بتسريحة جديدة. وكل مؤتمراتنا السياسية هي “سقيفة بني ساعدة” بديكور مختلف. فـ”الجديد هو القديم” كما يقول درويش.

 

كاتب عراقي

أسعد البصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *