عن المتضررين من هزيمة ساحقة لداعش / أكرم البني / رصد عراقيون
بعيداً من مظاهر الاحتفال الصاخبة بطرد تنظيم داعش من الموصل والتهليل بدحره تدريجياً في مدينة الرقة، ربما يثير الاستغراب أن يكون المحتفون هم المتضررين من إنزال هزيمة ساحقة بهذا التنظيم.
بداية، وعلى رغم عدائها المعلن لداعش، ثمة مصلحة حقيقية لطهران في الإبقاء على هذا البعبع، وتوظيفه عند الحاجة، إما لتشويه وإجهاض فرص النهوض العربي، وإما لإثارة الفوبيا الغربية من الجهاد الإسلاموي المتشدد لتشجيع القبول الدولي بها وبحلفائها كأهون الشرور، ما مكّنها من تسويغ حضورها وتعزيز نفوذها في العراق وسورية ولبنان.
وإذ يندفع البعض في قراءة العلاقة بين طهران والإرهاب الجهادي إلى حد ربط عتبة تقدم النفوذ الإيراني في المنطقة، بتفجيرات أيلول (سبتمبر) 2001 التي حضت واشنطن على اجتياح العراق وتدمير دولته والعبث بمكوناته، مذكرين بتنسيق طهران الفريد مع النظام السوري، لتمكين جماعات التشدد الإسلاموي من معاودة نشاطاتها للنيل من القوات الأميركية وإجبار البيت الأبيض على اتخاذ قرار الانسحاب من العراق وتركه لقمة سائغة لنفوذ الحرس الثوري، يتساءل آخرون عن سبب عدم تعرض طهران لأية عملية نوعية من قبل هذا الإرهاب؟ وهل يعتبر سلوكاً بريئاً احتضانها لبقايا أمراء القاعدة وأُسرهم بعد خروجهم من أفغانستان؟ وأين يدرج ما يثار عن تواطؤ حليفها المالكي، قبل ثلاث سنوات، لتسهيل سيطرة تنظيم داعش على مدينة الموصل واستيلائه على كميات وفيرة من السلاح والذخائر؟. وأية دلالة تحمل عبارة زلق بها أحد قادة الحرس الثوري، تظهر قلقه من أن تفضي جدية الأميركيين اليوم في القضاء على داعش، لحرمان بلاده من شبكات اللعب والتأثير في المنطقة؟.
منذ إطلاقه سراح مئات المتطرفين والشبهات تحوم حول النظام السوري في خلق داعش واستثماره لتشويه ثورة الحرية والكرامة وعزلها، فكيف الحال بعد اكتشاف كوادر لداعش مرتبطة بالأجهزة الأمنية تغلغلت إلى صفوف الحراك الشعبي لدفعه نحو التطرف والعنف، ولإثارة خلافات تستنزف قوى المعارضة وفصائلها المعتدلة؟ وكيف الحال مع وضوح تناغم بين النظام وداعش لتسهيل سيطرة الأخير على مدينة الرقة بداية، ثم مدينة تدمر وقطاع واسع من البادية السورية؟ وكيف الحال حين يجاهر الطرفان بتعاونهما الاقتصادي في مجال تسويق النفط والغاز وتبادل المنتجات الزراعية، والأسوأ التواطؤ في توقيت بعض المعارك والانسحابات لتشديد العنف والقصف والتدمير على مناطق التمرد المستعصية، لتغدو في غالبيتها، أثراً بعد عين؟!.
وأيضاً لولا فزاعة داعش، ما كان حزب الله قادراً على تبرير انخراطه المريع في الصراع السوري، أو خلق مناخ مقزز لاستباحة إذلال اللاجئين السوريين واستسهال قتلهم، بذريعة ارتباطهم بالإرهاب الجهادي المهدد لأمن لبنان وحيوات أبنائه، وأخيراً لتسويغ معاركه في جرود عرسال، من دون اهتمام بما أثاره من شكوك، إعلانه تحييد مواقع داعش كي ينال أولاً من جبهة النصرة!.
ومن المتضررين من تصفية داعش، مروحة واسعة درجت تسميتها بالإسلام المعتدل، حيث مكّنها وجود هذا التنظيم من تحصيل شرعية سياسية كبديل يجاهر من داخل البيت الإسلامي بمناهضة التطرف والإرهاب. وفي هذا الحقل يمكن إدراج حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا وجماعات الإخوان المسلمين المنتشرة في العديد من البلدان العربية، فضلاً عن فئات إسلامية غربية ركبت الأذى الذي سببه تنظيم داعش في مجتمعاتها كي تحسن فرص حضورها العمومي، من دون أن ننسى الضرر الذي يسببه سحق داعش نهائياً لأطراف سياسية كردية، ما دامت قد اتكأت على إرهابه الوحشي، كي تشدد مطالبها القومية وحقها في تقرير مصيرها وإقامة دولة مستقلة، ربطاً بإثارة المخاوف من المستقبل الذي ينتظر الشعب الكردي في حال انتصر هذا التنظيم.
وما يثير الاستغراب الأكبر، القول إن أهم المتضررين من هزيمة داعش بالطريقة التي تتم في العراق وسورية، هم دعاة التغيير السياسي من الديموقراطيين والعلمانيين وأنصار المجتمع المدني، ليس لأنهم لا يكترثون بالوسائل الأمنية والعسكرية لمواجهة قادة الفكر الجهادي وردعهم، بل لأنهم يخشون توظيف ذلك، للتغني أكثر بخيار العنف ولتسويغ استمرار مناخات القهر والاستبداد والتدخلات الخارجية، والأهم لتعزيز الاستهتار المزمن بالعوامل السياسية والمعرفية والاقتصادية لمعالجة دوافع التطرف الإسلاموي وتجفيف منابعه.
أولا يشكل النجاح في هزيمة ساحقة لداعش ذريعة قوية لتحرير الفعل الأمني عالمياً ودفع الدور العسكري التدخلي إلى الأمام ما يضعف القدرة على الإقناع بعبثية الحرب على الإرهاب كما تدار حالياً، وطمس حقيقة أن هذه الحرب، وعلى رغم نجاحها في النيل من أهم قادة التطرف الإسلاموي، لم تنجح في إزالة الإرهاب، بل جعلته أكثر حضوراً وخطراً على الإنسانية جمعاء؟. أولن يشجع هذه النوع من الهزائم على تعويم الصراعات الدائرة بين الشعوب والسلطات المستبدة وتمييعها، وتالياً على الاستمرار في تغييب الحقل السياسي لحساب عنف مفرط وتنابذ طائفي بغيض، مجهضاً مسارات التحديث والتنمية وفرص بناء مجتمعات أكثر معرفة وأشد حرصاً على حاجاتها وحقوقها؟ أولا تفضي استباحة الفتك والتنكيل وشدة الحيف والتمييز ضد ما تسمى الحاضنة الشعبية للفكر الجهادي، إلى اتساع الفئات المهشمة والمحتقنة مذهبياً والتي كانت ولا تزال تشكل تربة خصبة تمد داعش وأشباهه بأسباب النمو والتجدد، وتالياً إلى تعميق مشاعر القهر والظلم لدى المكون العربي السني وتكريس ردود فعله في إطار من الثأرية المذهبية، ما يحرمه من حقه وفرصته الريادية في نصرة مجتمع الحرية والمواطنة وقيادة النضال لإزالة كل أسباب التميز والاضطهاد؟.
وأخيراً، ألن تعزز هذه النتيجة الدموية فاعلية الخطاب الجهادي السطحي الذي يختزل مشكلات الحياة في صراع خطير بين دار الإيمان ودار الكفر، وتفتح الأبواب أمام عمليات إرهابية عشوائية تبيح القتل والذبح في أي مكان وضد أي كان، ما ينعش ويغذي الشعبوية ويوسع دوائر المستهترين بعافية المجتمعات التعددية وغناها؟!.