«ما خفي كان أعظم».. ما لا يخبرك به الإعلام عادةً عن معركة الموصل / أحمد الدباغ، ساسة بوست، رصد عراقيون

في سياق تغطيته لمعركة الموصل، يشير الإعلام عادة إلى أخبار دحر تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» من المدينة، وما يترتب على ذلك من مظاهر الاحتفاء الرسمي والشعبي، لكن القليل من التركيز يوجه إلى «الآثار الجانبية» لعملية التحرير، وما ترتب عليها من مآسٍ اقتصادية واجتماعية وإنسانية.

«ساسة بوست» حاول الاستقصاء، وتحدّث مع باحثين وصحفيين ومسؤولين من سكان المدينة، ومطلعين على أحوالها، محاولين تسليط المزيد من الضوء على الجانب المخفي من الصورة.

آلاف القتلى وأضعافهم من الجرحى

مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى، ثانية كبريات المدن العراقية، يزيد عدد سكانها باعتبارها محافظة على ثلاثة ملايين، ويقطن المركز نحو مليوني نسمة.

معركة تحرير الموصل من سيطرة تنظيم الدولة «داعش» بدأت في السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، حتى أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في العاشر من تموز (يوليو) النصر على التنظيم رسميًّا، لكن الاشتباكات لا تزال مستمرة مع بعض جيوب التنظيم في المدينة القديمة.

انتهت المعركة عسكريًّا إذن، لكنها واقعيًّا لم تنته بعد وستستمر تبعاتها إلى سنين قادمة ربما، فبحسب تقرير نشرته صحيفة الإندبندنت البريطانية بتاريخ 19 من الشهر الحالي، فإن معلومات استخباراتية حصلت عليها الصحيفة تشير إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص خلال معركة استعادة الموصل. هذا الرقم ربما احتُسب بناء على ما ورد الجهات الاستخباراتية أثناء المعركة، لكنه لم يحتسب آلاف القتلى الذين سقطوا خلال فترة سيطرة تنظيم «داعش» على المدينة وما اقترفه بحق سكانها من بطش وتنكيل، فضلًا عن الذين سقطوا خلال القصف الجوي التمهيدي الذي سبق معركة استعادة الموصل بسنتين حين بدأ التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في 7 من آب (أغسطس) 2014 بشن أولى الضربات على مواقع التنظيم في العراق.

أحد الموظفين الذين كانوا يعملون في الطب العدلي في الموصل فترةَ سيطرة التنظيم على المدينة -رفض الكشف عن اسمه- لـ«ساسة بوست» إن «آلاف الجثث وصلت الطب العدلي خلال عامين ونصف، كلهم كانوا قد أعدموا على يد التنظيم ونكّل بجثثهم أيضًا»، ويضيف أن «أضعاف هذا العدد قتلوا ولم تسلم جثثهم لذويهم أو أُلقيت جثثهم في الحفرة العميقة في منطقة «الخسفة أو الخفسة» جنوب الموصل».

أما عدد القتلى خلال المعارك فهو أكبر مما ذكرته صحيفة الإندبندنت البريطانية، والذي بلغ حسب إحصائها نحو 40 ألف قتيل، فما زالت مئات المنازل المهدمة رابضة على جثث أصحابها، ولا تستطيع فرق الدفاع المدني انتشال الجثث لقلة المعدات التخصصية، فضلًا عن استمرار الاشتباكات في بعض مناطق الموصل القديمة حتى اللحظة.

يؤكد المحلل العسكري علي الحمداني وهو ضابط في الجيش العراقي السابق إن «معركة الموصل تعد من أصعب المعارك لأي جيش نظامي مهما كانت قوته، وأي مدينة في العالم جرت فيها حرب شوارع كانت نسبة الدمار فيها شبيهة بالموصل أو قريبة منها كالبوسنة وحلب أخيرًا، لكن التكتيك العسكري المتبع في معركة استعادة الموصل لم يتسم بالوضوح والشفافية وكان لأمريكا اليد الطولى فيه».

وأضاف الحمداني في تصريحات خاصة لـ«ساسة بوست» أن «تغيير الخطة العسكرية في معركة استعادة الجزء الغربي من المدينة من أسلوب «حذوة الفرس» –الذي كان يؤمل من خلاله هروب عناصر التنظيم إلى خارج المدينة- إلى أسلوب الحصار المطبق على عناصر تنظيم الدولة «داعش» زاد من شراسة مقاومة عناصر التنظيم، وبالتالي فإنهم حوصروا في منطقة متهالكة أصلًا ولا تتحمل أي اشتباك بالأسلحة الخفيفة فكيف بالثقيلة!

وفيما يتعلق بالقوات التي شاركت في المعركة قال الحمداني: «كان الدور الأكبر منوط بقوات جهاز مكافحة الإرهاب، وأقولها حقيقة إن تدريبهم وقوة اقتحامهم لم أرَ مثيلها في العراق منذ ثمانينيات القرن الماضي إبّان حرب العراق ضد إيران». وعن القوة النارية المستخدمة في المعركة أشار الحمداني إلى أن «ضعف بعض القوات المهاجمة والخسائر الكبيرة التي منيت بها أجبر الطيران الحربي على معالجة كل الأهداف جويًّا قبل التقدم صوبها ما أوقع هذه الخسائر الفادحة».

إعلام المعركة

الصحفي الموصلي «ريحان الموصلي» يقول لـ«ساسة بوست»: «إن معركة الموصل تميزت بتنوع القوات المشاركة فيها على عكس معارك أخرى، وكان هناك تفاهم بين هذه القوات وهو ما ساعد على استفادة الصحفيين من الوصول إلى مناطق القتال من أكثر من جهة وتسهيل عمل الجميع دون تمييز على عائدية وسيلة الإعلام».

ويضيف الريحاني أن «تغطية مناطق الحرب بكاميرات الدرون الطائرة شيء مميز وجديد استخدم لأول مرة في الموصل، وكانت هذه الطائرات ترصد عمليات القصف أثناء المعارك والدمار الذي أصاب المناطق المستعادة . لكن مع تقدم المعركة فُرض حظر على عدد من القنوات بعد نشرها تقارير تحدثت عن تجاوزات بعض القوات الأمنية، كما مُنعت قنوات أخرى من البث المباشر لأنها أظهرت عمليات القصف على الهواء وهو ما أثار ضجة عامة بدعوى استهداف المدنيين، ورغم ذلك استمرت التغطيات حتى نهاية المعركة».

ويختتم الموصلي كلامه: «بأن القوات الأمنية العراقية كان لها دور في توثيق الكثير من الأحداث بواسطة هواتفهم النقالة واستطاعوا تزويد الصحفيين بصور نادرة ومن مناطق خطرة لا يمكن للصحفيين الوصول إليها. كما كان لكل هذا التوثيق عن عمليات نزوح المدنيين دافعًا كبيرًا للمنظمات الإنسانية لتقديم التبرعات والدعم للمخيمات، وأعتقد أن توثيق الدمار أيضًا وخصوصًا في المدينة القديمة سيشكل ضغطًا على الحكومة العراقية لاعتبار المدينة منكوبة وتخصيص أموال لإعمارها».

سيناريوهات ما بعدَ المعركة

من جهة أخرى، تشهد الموصل بعد استعادتها تعددًا كبيرًا للقوات الماسكة للأرض، فما بين قوات نظامية كالجيش والشرطة والشرطة الاتحادية، تبرز قوات أخرى تتمثل بالحشود العسكرية التي شُكّلتْ عقب سيطرة تنظيم الدولة «داعش» على المدينة عام 2014، حيث أن لكل عشيرة تقريبًا مجموعة مسلحة تسمى بـ«حشد +اسم العشيرة أو القبيلة»، ويزيد مجموع هذه الحشود عن 25 حشدًا، فضلًا عن الفصائل أو «المليشيات» المنضوية منذ 2014 تحت اسم «الحشد الشعبي»، كل هذا سيؤدي إلى فوضى أمنية بحسب المحلل العسكري «علي الحمداني»، لعل بوادرها ظهرت الأسبوع الماضي في الاشتباك الذي دار بين قوات «حرس نينوى» وفصيل تابع للحشد الشعبي في منطقة المجموعة الثقافية.

الأبعاد الاقتصادية لحرب الموصل

تظهر مقاطع الفيديو التي ينشرها الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي حجم الدمار الهائل الذي أصاب قلب الموصل النابض، وهو مركز مدينة الموصل والمعروف باسم «المدينة القديمة»، حيث نشر موقع UN HABITAT التابع للأمم المتحدة معلومات مفصلة عن عدد الوحدات السكنية المدمرة بين 18 حزيران (يونيو) 2017 والـثامن من تموز (يوليو) 2017 وتشير المعلومات إلى أن هذه الفترة شهدت تدمير 5 آلاف و 393 وحدة سكنية في «الموصل القديمة» فقط. وبما يعادل مساحةً 126 هكتارًا من المباني، دُمّرت بالكامل في مدينة الموصل خلال استعادة كامل المدينة من تنظيم الدولة «داعش». فضلًا عن خروج الجسور الخمسة التي تربط طرفي المدينة الشرقي والغربي عن الخدمة نتيجة الضربات الجوية.

ما لا يعرفه الكثيرون أن قلب الموصل المتمثل بـ«المدينة القديمة» هو شريان الاقتصاد فيها منذ مئات السنين، فالمدينة القديمة تعود في بنائها إلى مئات السنين وظلت هذه المنطقة مركزا تجاريًا رئيسًا للمدينة، حيث تضم كل أسواق بيع الجملة «wholesale» وكل هذه الأسواق دُمرت عن بكرة أبيها، نتيجة المعارك الضروس بين الطرفين، إضافة إلى إحراق «داعش» أجزاء كبيرة منها قبيل خسارته للمنطقة كأسواق «باب السراي والسرجخانة والدواسّة».

وللقارئ أن يتخيل مدى الخسارة الكبيرة التي مُنِي بها التجار في المدينة. فيما تشير بعض الإحصائيات المحلية إلى تدمير أكثر من 50 ألف سيارة مدنية خلال المعركة فضلًا عن فقدان آلاف السيارات الحكومية والآليات خلال فترة سيطرة «داعش» على المدينة، حيث فخخ بعضها وباع وهرّب البعض الآخر ويقدر عددها بنحو 12 ألف سيارة وآلية.

لم تنته القصة هنا، فما بعد المعركة أصعب من المعركة ذاتها، وللأمر وجوه عدة، حيث أعلنت الخارجية الأمريكية أن نزع الألغام وسائر الذخائر من الموصل قد يستغرق مدة طويلة تصل لعقود.

يقول الخبير الاقتصادي رأفت محمد العبيدي -وهو محلل مالي من مدينة الموصل يعمل خارج العراق منذ 10 سنوات- تحدث لـ«ساسة بوست» موضحًا أن «الموصل مدينة منكوبة بكل ما تعنيه الكلمة، فالبنى التحتية مدمرة بنسبة 90% وآثار المدينة مدمرة بنسبة تصل إلى 80% وهي المساجد والكنائس والمدن التاريخية كالحضر والنمرود ورغم كل هذا ترفض الحكومة المركزية إعلان المدينة منكوبة».

وعن إمكانية إعمار المدينة مرة أخرى يرى «العبيدي» أن لا أمل يُرى في الأفق لإعادة إعمار أي جزء من المدينة أو تعويض أهلها في ظل الظروف الحالية والوضع السياسي الراهن، فخزينة الدولة خاوية على عروشها، وما تأخُّر رواتب الموظفين الحكوميين في بعض الوزارات إلا دليل على عجز الحكومة ماليًا، إضافة إلى فقدان الدول المانحة الثقة في الحكومة نتيجة الفساد المالي والسياسي المستشري والذي يعد الأعلى عالميًّا.

الموصل إذن، على موعد مع تبعات الحرب في ظل واقع سياسي وأمني شاذّيْن، واستعصاء لحلول المشكلات الاجتماعية التي لا تقف عند الدمار بل تمتد لعشرات آلاف الأرامل والأيتام وما تحتاجه هذه الفئات من رعاية خاصة تحول دون انخراطها في الجريمة المنظمة وفي ظهور جماعات خارجة عن الدولة مرة أخرى.
#وكالة_انباء_عراقيون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *