المسألة الكردية بين معركة الرقة واستفتاء الاستقلال د. خطار أبودياب
المسألة الكردية ترتبط بمسار المسألة الشرقية الجديدة والصراعات الدائرة، لكن الفرصة الماثلة اليوم أمام الأكراد في تحسين مواقعهم تبدو ملائمة أكثر من أي وقت مضى.
من دون شك، سيكون حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الرابح الأكبر من معركة الرقة التي تنهي حقبة من الحرب الضروس ضد تنظيم داعش التي خاضتها قوات سوريا الديمقراطية (نواتها أساسا قوات الحماية الكردية التابعة لهذا الحزب المقرب من حزب العمال الكردستاني في تركيا) تحت إشراف أميركي من كوباني-عين العرب إلى منبج والطبقة.
لكن هل سيكون الفوز بمعركة الرقة لمصلحة القضية الكردية وفي أي اتجاه؟ وفي هذه الأثناء قررت رئاسة إقليم كردستان العراق (المتمتع بالحكم الذاتي منذ 1991) إجراء استفتاء على استقلال الإقليم في 25 سبتمبر القادم. فهل ستفتح “تحولات” المشرق منذ 2011 ومسلسل الفوضى التدميرية الأبواب أمام تحقيق الحلم الكردي أم سيواجه الأكراد تكرار خيبات أمل ما بعد معاهدة سيفر (1920) أو بعد اتفاق 11 مارس 1970 مع حكومة العراق؟
الشعب الكردي (وتعداده بين 35 و40 مليون نسمة) هو أكبر شعب في العالم من دون دولة. وبالرغم من الحضور التاريخي القديم جدا للأكراد في الشرق الأوسط الحالي، لم تكن الجغرافيا ولعبة الأمم إلى جانبهم وهم يتوزعون اليوم بين تركيا وإيران والعراق وسوريا، ولهم تجمعاتهم في لبنان وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا.
لم يكن للأكراد من أصدقاء إلا الجبال حسب المقولة التي يرددها كبارهم، ولم تكن لهم حصة في الترتيبات السياسية الدولية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وما بين معاهدة سيفر (1920) ومعاهدة لوزان (1923) سقط وعد حق تقرير المصير الكردي تحت وطأة صعود مصطفى كمال أتاتورك (لم يصل الأمر إلى المطالبة بالوطن القومي لأن الأكراد حينها كانوا بعيدين عن الأفكار الوطنية وينظرون إلى أنفسهم كمسلمين وعثمانيين). بيد أن تقطيع الأوصال بين مناطق سكن الأكراد وعامل الزمن لم يؤثرا على صعود الانتماء الكردي، وبرز ذلك في مقاومة للأمر الواقع لم تنقطع منذ حوالي قرن من الزمن.
من جمهورية مهاباد الكردية في إيران التي أُنشئت سنة 1946 ولم تدم أكثر من 11 شهرا إلى الحكم الذاتي في شمال العراق في مارس 1970، أخذ الأكراد يتمكنون من تحقيق بعض الإنجازات بالرغم من انقساماتهم وتناحرهم القبلي. ولم يعد ينحصر التمثيل بالبنية العشائرية التقليدية التي يطغى عليها آل البارزاني خاصة بعد تأسيس عبدالله أوجلان في 1984 حزب العمال الكردستاني في تركيا وهو توليتاري الطابع مع القبضة الحديدية خلف الزعيم.
لكن تقاطع المصالح الإقليمية والدولية تبعا لحربي 1990-1991 و2003، هو الذي سمح بجعل إقليم كردستان في العراق أول كيان حكم ذاتي في العالم يملك قوات مسلحة وشرطة ناجحة (الإدارة ينخرها الفساد والطبقة السياسية منقسمة بحدة والنفوذ التركي في الشمال كبير إلى جانب التأثير الإيراني في السليمانية عند فريق الطالباني).
في الإجمال، جعل التركيز على حصانة الحدود القائمة منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وعلى وجود الأكراد في دول مركزية متشددة في عصبيتها القومية (الأتراك والفرس والعرب) قيام الدولة الكردية من المحرّمات. لكن حركة التاريخ التي لا تتوقف يمكن أن تعدّل مساره، فكما كان التحالف الموضوعي بين الدول التي يقطنها الأكراد لغير صالح تحقيق مطالبهم، يمكن لتطورات الحرب ضد تنظيم داعش في سوريا والعراق أن تكون مصيرية بالنسبة إلى مستقبلهم السياسي.
على الساحة السورية ونظرا لرفض المعارضة السورية المسلحة التركيز على الحرب ضد داعش ونسيان المعركة ضد النظام، لم تجد واشنطن مناص من التعاون مع قوات الحماية الكردية ولم تهتم برابطها الأيديولوجي مع حزب أوجلان الموجود على قوائم الإرهاب. وهكذا بعد معركة كوباني أصبح هذا اللاعب الكردي رقما صعبا لا يمكن الالتفاف عليه. أما في كردستان العراق فقد لعب البيشمركة دور الصد الأول بعد سقوط الموصل في العام 2014، ولا يمكن إغفال إسهامهم في هزيمة داعش.
قبل نهاية 2017، الموعد النظري لاقتلاع داعش من أراضي الخلافة المزعومة، تدق ساعة الحقيقة بالنسبة إلى الأكراد وتساورهم الشكوك مع اقتراب زمن الحصاد. ولهذا يتحرك الفريقان الممثلان للأكراد من دون تنسيق.
إذ يسعى حزب الاتحاد الديمقراطي إلى انتزاع حكم فيدرالي في سوريا بعد طيه لمشروع خاص في “روج آفا” علما وأن “مكاسب” هذه القوة الكردية الخاضعة لأوامر جبل قنديل – معقل حزب العمال الكردستاني- كانت على حساب الأكراد في تركيا (حزب العمال الكردستاني والرئيس أردوغان تلاقت مصلحتهما الموضوعية في إنهاء الهدنة والعودة إلى الاشتباك المسلح منذ 2014 في جنوب شرق تركيا خصوصا وآثاره المأساوية على المدنيين الأكراد وعلى حقوقهم وإنجازاتهم الضائعة).
أما رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، الذي يخشى خديعة اليوم التالي في الموصل، فيسارع من دون تردد لتنظيم استفتاء 25 سبتمبر، وذلك لحفظ الموقع الكردي في إعادة تركيب العراق ولو لم يصل ذلك إلى مستوى الاستقلال الناجز.
في الطريق إلى الرقة، استبعدت الولايات المتحدة الأميركية أي دور لتركيا بالرغم من إصرار رجب طيب أردوغان، ولا يتوقع أن تسمح للتحالف الإيراني المندفع عبر مسكنة (ريف حلب) من الوصول للمشاركة في السيطرة على “عاصمة الخلافة”. بعد أسابيع قليلة أو كثيرة سينجلي غبار معارك الرقة ودير الـزور والمثلـث الحدودي السوري- العراقي- الأردني وباديته المحاذية، وتشير الدلائل إلى إمكانية امتداد النفـوذ الأميركي على هـذه المناطق التي يمكن أن تصل مساحتها إلى أكثر من أربعين بالمئة من مساحة سوريا (حسب مذكرة الأستانة يتقـاسم الروس والإيرانيين والأتراك مناطق نفوذ أو ما يسمّى تخفيف التصعيد).
ومن دون ريب سيكون الوضع السوري مرتبطا بتطورات الوضع الميداني وميزان القوى الأميركي- الروسي. وبالنسبة إلى موقع الأكراد لن يتم تسليمهم إدارة الرقة بشكل حصري وسيكون مطلبهم في الفيدرالية عرضة لتجاذبات دولية وإقليمية، خصوصا أن حزب الاتحاد الديمقراطي لم يضع كل البيض في السلة الأميركية ويملك صلات مع روسيا ودول أوروبية وإيران. الاشتبـاك سيكون حول مساحة النفوذ الكـردي حيث أن هاجس أنقرة من قيام شريط كردي ملاصق لحدود تركيا سيبقى سيفا مسلطا على طموح قوات الحماية الكردية.
نتيجة لعدم حسم الأمور في التعددية القطبية عالميا واحتدام التنافس الإقليمي، من الصعب تمرير أفكار إعادة تركيب الإقليم وتغيير خارطة الدول خصوصا التي تتميز بموقعها الحساس وبثرواتها الهائلة من الطاقة.
لكن تطور الأحداث يشير إلى أنه من الصعب العودة الحرفية لما كان قائما. لكن مقابل عدم تبلور صورة المشهد الإقليمي ومصير وحدة الكيانات في مستقبل منظور، نلحظ استمرار تحطيم الدول المركزية استنادا إلى مخاطر امتداد النزاع السني- الشيعي في المشرق المعطوف على الصراع في سوريا وحولها، والمتصل بمصالح إيران وإسرائيل وتركيا وغيرها من أطراف لعبة الأمم.
والسيناريو الأكثر ترجيحا بالنسبة إلى مستقبل الدولة القومية ستكون نهايته في شكله المركزي وتحوله إلى نموذج دولة تعددية لا مركزية تسمح بتلبية مطالب المجموعات العرقية، مما يزيد من احتمال تبلور فيدراليات في سوريا والعراق.
في العراق لا يريد الأكراد أن تستغل الحكومة المركزية العراقية، لا سيما الجماعات الشيعية المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي، استعادة الموصل لإعادة فرض سلطة بغداد في الإقليم، خاصةً وأن الجدل حول كركوك وأماكن أخرى لم يحسم منذ 2003.
وهذه المستجدات سرّعت قرار إجراء الاستفتاء من دون غطاء أميركي علني لأن واشنطن تخشى التفكك النهائي للعراق وسوريا، لكن التوافق الكردي سيقود إلى منح خيار الاستقـلال أغلبية كاسحة. والأرجح أن يبقى ذلك من دون تنفيذ وفي قلب اختبار قوة متعددة الأطراف وسينتظر الحسم جلاء الصورة في كل الإقليم على مدى متوسط.
هكذا ترتبط المسألة الكردية بمسار المسألة الشرقية الجديدة والصراعات الدائرة، لكن الفرصة الماثلة اليوم أمام الأكراد في تحسين مواقعهم تبدو ملائمة أكثر من أي وقت مضى.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس
د. خطار أبودياب