الأموات لا يذكرهم الخطباء… تنافس الساسة والميليشيات ورجال الدين في العراق هيفاء زنكنة
تسود في « العراق الجديد» حمى اعتلاء منصات الخطابة والوعظ وقراءة البيانات. حيث يتنافس الساسة من داخل وخارج الحكومة مع رجال الدين وقادة الميليشيات على اعتلاء منصات عالية تمنحهم الاحساس بالسلطة والقوة على ابناء الشعب، وتساعد على ستر الجرائم المرتكبة بحقه.
على المستوى الحكومي، يقف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، مرة كل اسبوع (بالاضافة إلى خطب المناسبات واعلان الانتصارات العسكرية) على منصة عالية، ليلقي خطبة عصماء على الشعب العراقي الذي يتلقفها عبر قناة « العراقية»، الرسمية، التي تبث الخطاب مباشرة، بينما تقتطف بقية القنوات الفضائية والمحلية بعض فقراته، بانتقائية، تتماشى مع درجة الاهتمام بفقرة دون غيرها أو مقدار الدعم المادي الذي تتلقاه القناة من مكتب رئيس الوزراء أو حسب خطها السياسي والطائفي، وغالبا، ما يتقدم الطائفي على السياسي او يتلاحم به إلى حد استحالة الفصل بين الاثنين.
خطاب العبادي، ليس الوحيد الذي يتجرعه الشعب العراقي، اسبوعيا. حيث يحتل خطاب عمار الحكيم، رئيس التحالف الوطني الشيعي، يوما آخر من أيام الاسبوع. ففي كل يوم أربعاء، يعتلي الحكيم منصة في قاعة واسعة تضم مئات الموالين، متناولا من الموضوعات ما يراه ملائما لـ «علاج» ابناء الشعب من أمراضهم. واذا كان العبادي يخاطب الشعب عبر عدسة الكاميرا، فإن الحكيم يتفوق عليه من ناحية الحضور الجماهيري الحي بالإضافة إلى البث التلفزيوني.
تماثله المرجعية الدينية في استغلال الحضورين الجماهيري والتلفزيوني. فحصة المرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني ،هو يوم الجمعة، بالوكالة. اذ لا يحبذ المرجع الظهور الشخصي وان كان مواظبا على ايصال رسائله، بأنواعها، إلى الناس. حيث يعتلي المنصة، بدلا منه، عادة، ممثله في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي، لايصال ارشاداته الاجتماعية والسياسية المغلفة دينيا، اما بشكل مباشر، كما حدث حين أصدر فتوى الجهاد الكفائي لمحاربة « الدولة الاسلامية» او بشكل غير مباشر حين قرر، في 5 شباط/ فبراير 2016، متحدثا من خلال وكيله الشيخ أحمد الصافي، ان لا تكون خطبته اسبوعية بل «حسب ما يستجد من الامور وما تقتضيه المناسبات»، اشارة إلى زعله من الحكومة التي لم تستمع لارشاداته، والاكتفاء «بالدعاء لاخواننا المقاتلين ( ميليشيا الحشد الشعبي) في جبهات المنازلة مع الإرهابيين». غير ان زعل المرجعية من حكومة العبادي لم يدم طويلا، فعاد وكيله إلى اعتلاء المنصة اسبوعيا.
المنصات أنواع. فبالاضافة إلى المنصات الفردية هناك منصات جماعية منصوبة وجاهزة للاعتلاء خارج قاعة البرلمان. يراها العراقي حين يزعل اعضاء حزب/ تيار/ كتلة برلمانية ما، فيصطفون كتلاميذ المدارس الابتدائية، للوقوف عليها والتناوب على القاء الخطب أو قراءة بيان او توجيه اتهامات بالفساد لنواب كتلة أخرى، أو الظهور بمظهر الوطني الحريص على مصلحة الشعب خلافا للآخرين، مع مراعاة ان تقف في الواجهة، دائما، أما نائبة واحدة أو اثنتان، لئلا يتهم حزب المنصة بأنه ذكوري.
من فوائد اعتلاء المنصة خارج القاعة، ان يحظى النواب الذين يعتلونها، بتسليط الضوء الاعلامي عليهم للمرة الثانية، بعد المرة الاولى التي يضمنها لهم البث التلفزيوني المباشر من داخل قاعة البرلمان. مما يؤكد الانطباع الشعبي العام بأن العملية، كلها، لا تزيد عن كونها صراعا على الظهور الاعلامي، خاصة وان المنصات مزودة بمايكروفونات معظم القنوات الاعلامية المرئية والمسموعة، ولا علاقة للصراع بمصلحة الناس.
بعيدا عن منصات الساسة ورجال الدين، هناك منصات الميليشيات. ولعل العراق، واحد من قلة من دول العالم، يعتلي فيها حفنة من قادة الميليشيات ذوي الولاء المطلق لدولة أخرى، منصات التصريحات والخطب، علنيا،، متى وأينما ارادوا، مما يكرس كونهم مالكي السلطة، أكثر من الحكومة. اذ لا يخلو يوم من تصريح او تهديد او اعلان انتصار، يطلقه « متحدث اعلامي» باسم ميليشيا الحشد الشعبي. ولميليشيا الحشد ( ما يزيد على 60 ألف مقاتل) التي اعلن نظام العبادي وجودها تحت مظلة حكومية، ظاهريا، ألويتها الخاصة ومديرية أمنها، ومكتبها الاعلامي وقائدها وتسليحها ومخصصاتها ومدربيها ومستشاريها الايرانيين، أي كل ما يجعلها خارج نطاق الدولة وقيادة الجيش والقوات الأمنية وأي مؤسسة من مؤسسات الدولة ولو شكليا. بل وللميليشيا رايتها التي ترفعها في عملياتها وهجومها على المدن وشعارها الخاص الذي يظهر وراء « المتحدث الاعلامي»، حين يعتلي منصة الخطابة.
واذا كانت مهمة منصات الساسة ورجال الدين تقتصر على الوعظ والترويج السياسي و التحريض الطائفي « الناعم»، فان منصات الميليشيات، بادعاءات التحرير والانتصار والتطهير هي الوجه الآخر للطائفية الداعشية، ووجودها لا يقل خطرا على مستقبل وأمن العراق كبلد مستقل، يتمتع بالسيادة، من انبثاق « منظمة إرهابية» جديدة لا يكفون عن تهديد الناس بظهورها مستقبلا.
ماذا عن عموم الناس؟ اصدر المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب احصائية بعدد الضحايا من المدنيين والعسكريين الذين سقطوا، في شهر أيار/ مايو الماضي وحده، جراء النزاع المسلح بين الحكومة وتنظيم الدولة، وضحايا انفجار السيارات المفخخة، والعبوات الناسفة، والقصف العشوائي وغارات طيران التحالف الدولي والحكومي، اضافة إلى الاعدامات الحكومية وعمليات الاغتيال والقتل خارج القانون، الذي تمارسه الميليشيات والاجهزة الحكومية، وقد بلغ عددهم (1157) شخصا. بينما سجلت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) استشهاد 354 مدنياً وإصابة 470 آخرين. ولعل سبب الاختلاف بين الاحصائيتين هو استثناء العسكريين من احصائية يونامي. ما يسترعي الانتباه، اكثر من غيره، ان من يعتلون منصات الخطابة ليرتلوا ترنيمات الانتصار، ويهيئون الارضية لانبثاق منظمات إرهابية أخرى، يتعامون عن ذكر حجم الخسارة البشرية الهائلة التي يتكبدها العراق، يوميا، ومن جميع الجهات، ثمنا لما زرعه الاحتلال، ومارعوه بأيديهم من طائفية وفساد. وسيبقى أطفالنا وشبابنا عملة مقايضة بأسلحة الميليشيات ووعاظ الشياطين وساسة حكومة ينخرها الفساد، مشغولة بحماية نفسها ومصالحها، على حساب الضحايا، ايا كانوا، ما لم يتحقق التغيير.
٭ كاتبة من العراق