الموصل القديمة تتحول إلى ملاجئ للعامريات / حامد الكيلاني
نزهة المتسكعين من القوى الأمنية في الموصل بكل تفاصيلها انتهت بتسونامي داعش وهروب الفرق العسكرية المدربة والمجهزة بأحدث المعدات أمام ‘أنفار’ معدودين قياسا إلى حجم القوات النظامية على الأرض.
أحيانا على مستوى الأفراد والحياة اليومية تتكدس الأخطاء وتزداد الأمور تعقيدا حتى تصل إلى طريق مغلق. الحياة تتوقف في نقطة نظنها النهاية لكن في لحظة اليأس ماذا لو عدنا إلى ذات الطريق وتأملنا في مراجعة كل ما تسببنا به من تخريب واعتذرنا عن الحماقات الصغيرة والكبيرة وباشرنا برفع الأنقاض في خطوة تصالح مع أنفسنا أولا، والاعتراف بأن السير في طريق العودة هو تصحيح يفتح لنا مغاليق الأفق بالعمل الجماعي والإيجابي وتوجيه القوة لتوسيع المنافذ الصغيرة لتعبر الحياة إلى المستقبل.
ما يجري في الموصل من نكبة إنسانية هو نتاج طبيعي للإصرار على السير في طريق الإثم وبأقدام آثمة وسلوك آثم وعقل قاصر على رؤية حتمية الانغلاق لعمل سياسي فاشل أخفق في إيجاد الحلول للأزمات الدائمة واستطال وتمدد وأطال معه المعاناة.
ذات الأحزاب والشخصيات، نهج متعمد في الإصرار على المحاصصة السياسية الطائفية والتبعية المطلقة لولاية الفقيه الإيراني، وتجاهل لمتطلبات الشعب في توفير أبسط الخدمات وهي من اشتراطات العيش، كتوفير الأمن والكهرباء والماء والصحة والتعليم وتقليل نسب البطالة والارتقاء إلى ما فوق خط الفقر؛ ولا ننسى أننا نتحدث عن العراق، البلاد التي تمتلك أضخم مصادر الطاقة وتحظى باحتياطي نفطي هائل، بما يعني وجود قاعدة جاهزة تتطلب نظاما سياسيا مستقرا ومستقلا ومنفتحا يدير دفة الشعب دون استثناء أو هدر أو تسريب، وذلك لن يكون إلا بإعادة وطن يعيد النظر بالمُثُل البسيطة فدونها لا يمكن أبدا بل من المستحيل بناء أي مشروع قابل للحياة والتطور. العراق كالبيت الذي يُفتَقَد فيه الحب بين ساكنيه.
الموصل مثال نستطيع أن نضعه تحت المجهر منذ بداية الاحتلال الأميركي للعراق وكيفية تنامي حركة العنف والانفلات وصولا إلى فساد الأجهزة الأمنية وانتشار فيروسات الفصل الطائفي الشبيهة بمضامين نظام الأبارتيد العنصري، وبداية التصريح بالشعارات المذهبية وتنامي الإحساس عند المجموعات الدينية أو القومية ذات النسيج الواحد بضرورة اغتنام مساحة الفوضى وليست الحرية التي أسس لها الاحتلال، للمطالبة بالحقوق، وذلك شيء طبيعي جدا، لكنها انكمشت على نفسها وخصوصيتها ونتجت عنها خصوصيات أصغر. هذا المفهوم أصبح سائدا لأن المجموعات الكبيرة والمؤثرة ارتكبت حماقة التمترس بدستور مكوناتها وغاب العراق الجامع والأب الذي لا ينام في غياب أحد أبنائه.
وصلت الموصل عبر مرحلة ما قبل داعش إلى إرهاب متعدد، إرهاب الإصرار على اضطهاد أهلها وغياب القانون وتفشي الجرائم والقتل بالترصد وعصابات السرقة والانتقام الشخصي والبطالة؛ أي أن بيئة جديدة تكونت متحفزة للعنف والخوف واللامبالاة مما أدى إلى ظهور نواة الجماعات الإرهابية التي تستغل الشعائر والطقوس الدينية والعبادات لفرض طغيانها ابتداء بالابتزاز المالي وإصدار الأوامر والنواهي، وعمليات قتل الأبرياء وتشخيص الأسر الميسورة أو التي تعيش وفق أنماط حياتية اجتماعية متحضرة لتفرض عليها إتاواتها وتنفذ العقاب فعليا بالمتمردين على نهجها.
ثم تعايشت الموصل مع الإرهاب القادم من سوريا وفضائح التدريب في معسكرات النظام، ونتذكر مهمات لواء “الذيب” في تلك الفترة وهي موثقة في التلفزيون الرسمي وكانت تعرضه كإدانات للنظام السوري لإرساله الإرهابيين والقتلة والمجرمين إلى الموصل؛ كان ذلك قبل الانعطافة الكبيرة للسياسة العراقية تجاه سوريا والتي أعقبت تفجير بناية وزارة الخارجية العراقية وسحب السفير العراقي من دمشق كرد فعل وجدت فيه إيران ردا متسرعا ومتشنجا تجاه حليف لها في المنطقة. وبعد أن وصلت القطيعة إلى حد المطالبة بتدويل قضية التفجير عادت فجأة العلاقات بين البلدين في تمهيد متصاعد مع الأحداث بعد الثورة السورية، ليُترك العنان للميليشيات الطائفية العراقية في خدمة النظام وتمدد مشروع تنظيم دولة ولاية الفقيه.
نريد أن نؤكد أن نزهة المتسكّعين من القوى الأمنية في الموصل بكل تفاصيلها انتهت بتسونامي داعش وهروب الفرق العسكرية المدربة والمجهزة بأحدث المعدات أمام “أنفار” معدودين قياسا إلى حجم القوات النظامية على الأرض؛ وهي في الحقيقة درسٌ في العسكرية لجيوش العالم في أداء المهمات والتعامل مع نوعيات مختلفة للهجمات وطرق الصمود والمقاومة والتعزيز والمعالجة ورد الفعل وتطبيق الأوامر القتالية الصادرة من مركز القيادة باستعداده الدائم، كما يفترض مع واقع الإرهاب في تلك المرحلة.
لماذا تمت إطالة أمد رد الفعل إلى أكثر من عامين على احتلال داعش للموصل؟ الحجة في الاستعداد والتهيئة، ووفق قواعد الكر والفر كان على القطعات انتظار التعزيزات من مقرات ومعسكرات أخرى وإعادة الحشد في مدة لا تتجاوز أسبوعين والقيام بهجوم كاسح ومباغت قبل أن تستقر المجاميع الإرهابية وتحصن دفاعاتها وتُوغل في مخططاتها ولا تترك المواطنين ليواجهوا مصيرهم.
تأخير الحسم يعني أن القيادات العليا، والسياسية في مقدمتها، غير مؤهلة لإدارة المعركة، لم تكن معركة كبيرة حينها، إذا افترضنا حسن النية، أو أنها متعمّدة لإهانة الأسلحة الأميركية، ولذلك إشارات إيرانية صداها في انسحاب قوى الأمن والدوريات العسكرية من مركز محافظة صلاح الدين قبل يومين من سيطرة داعش عليها، أي معاقبة المدن المطلوبة طائفيا والمطلوبة للانتقام من هزيمة إيران في حرب الثماني سنوات.
تتعرض الموصل ومن بقي في الأحياء القديمة من غربها إلى عمليات إبادة، متعمدة أو غير متعمدة، فطيران التحالف يعلن باستمرار أن وقوع الضحايا من المدنيين ليس مقصودا، إذ أن التعليل بالتداخل الميداني لعناصر داعش مع المدنيين، عذر غير مقبول في حالة قوات بإمكانية القوات الخاصة المجوقلة والمدربة على أصعب المهمات.
قصف مضاف من القوات الأرضية، وهي كما يفتخر العبادي ليس فيها مقاتل واحد من غير العراقيين، أي أنه يفرط بدماء المقاتلين كما يفرط بالمدنيين وكما فرط سلفه المالكي بالموصل والعراق إلى إيران ويطالب بالأمس فقط، أي المالكي، بحلف روسي إيراني عراقي سوري، أثناء توقيت زيارة العبادي إلى واشنطن، في لعبة مكشوفة للتحالف الوطني وحزب الدعوة لصناعة جناحين، أميركي يتمثل بالعبادي وجناح إيراني يمثله المالكي، وكلاهما لا علاقة له بالسياسة عندما يتعلق الأمر بالولاء لتنظيم دولة الولي الفقيه.
لماذا تستخدم المدفعية والهاون والصواريخ في اقتحام الأحياء القديمة؟ وهي أحياء توارثت الحياة فيها أجيالٌ متعاقبة وفي ذات البيوت؛ الجثث مرمية في الأزقة وتحت الأنقاض وبعضها يتم دفنه في سراديب البيوت؛ وما رأيناه من عربات نقل الموتى المتهالكة بالعبث والأحزان إلا صورة مصغرة لكارثة لا تتسع لهولها الكلمات.
ضبط النار لماذا لا يتم في الاشتباكات؟ لماذا قلة المنافذ لإخراج الرهائن؟ لماذا إطالة الحرب أصبحت مبررات جاهزة يتداولها الجميع من القيادة المشتركة للعمليات إلى رئيس الوزراء إلى القادة الميدانيين إلى المتابعين والمحللين الاستراتيجيين؟ والقصد حقن دماء الأبرياء والتأني في معالجة الأهداف؛ وهم أدرى بأن من بقي من داعش مقاتلون انتحاريون وهم مستعدون للقتل واستخدام الأسر كدروع بشرية. أين أساليب الحرب الخاطفة والإنزال المباغت وقطع أوصال العدو وتشتيت تواصله والقفز بين الأهداف والسرعة الصادمة؛ وهي كلها عوامل تختصر الوقت والحصار والموت إرهابا وجوعا ورعبا؛ أم أن الحقيقة على طاولة التخطيط للمعارك وتثبيت المدنيين كجزء من خسائر كبيرة في خطة التحرير.
الموصل رواية طويلة للموت، تذكرنا بالدولة الأقوى في العالم التي صنعت قنبلة خاصة لمهمة تدمير ملجأ للإنسانية، ملجأ العامرية، ولأسباب واهية. أليس بمقدورها مع كل التطور في بحوث الحرب من إنقاذ التفاؤل وتحريره مع الرهائن في لحظة اليأس التام؛ ليت الضحايا يتكلمون في العامرية أو الموصل لكن من يسمع ومن يتذكر؟
كاتب عراقي