البيت العربي وموعد على الغداء مع وزير خارجية العراق / حامد الكيلاني
اليوم يوم العرب في إنقاذ العراق والدفاع نيابة عنه، لانتشاله من ورطة الحكم الطائفي وفتح كل الملفات العنصرية أمام المجتمع الدولي، ليطلع على حجم الجرائم الكبرى التي ارتكبت.
يختنق العالم بقبضة العوادم ودخان المصانع العملاقة ممّا اضطر الملايين من الأشخاص في العواصم المزدحمة للسير في الشوارع وهم يرتدون الكمامات لتقليل آثار الانبعاثات على صحتهم، كأنهم يتعرضون لعقاب جماعي سببه عدم التوازن في النظر إلى قيم الأشياء؛ فمع كل استخدام لمفردة الإنسانية نتحمل مسؤولية كل نتاج التاريخ، أي أننا ورثة هذا الأفق البعيد لمنجزات الزمن.
انتابتني اختناقات مماثلة أثناء متابعتي للمؤتمر الصحافي المشترك لوزير الخارجية العراقي الحالي إبراهيم الجعفري مع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط الذي يزور بغداد لأول مرة منذ توليه منصبه، والزيارة تأتي في إطار الإعداد لمؤتمر القمة العربي بدورته الـ28 المقرر عقدها في العاصمة الأردنية عمان يوم 29 مارس الجاري.
الضيف امتدح وزير الخارجية ومعرفته به منذ كان رئيسا للوزراء في العراق، وهي فترة تأسست فيها الأزمات المتتالية ومنها الانقسام الطائفي وما نتج عنه من تدمير ممنهج لكيان الدولة الوطنية العراقية.
الضيف المصري يعرف الوزير كما يبدو جيّدا، كمعرفة العراقيين به، وللياقة الأدبية نتخطى التشخيص ونتوجه إلى ما جاء في المؤتمر؛ بثقة نطلق عليه تسمية مؤتمر “الانتقاء” لطروحاته وصحافييه وأسئلته المعدة بعناية لتلائم الهذيان والهوس المبطن تجاه الدول العربية، وتصيّد فرصة وجود الأمين العام في بغداد لعرض متطلبات تنظيم ولاية الفقيه في مؤتمر قمة الأردن القادم.
مراسلون في وسائل فيلق الإعلام الإيراني، التي غزت العراق بعد أبريل 2003، فرش لهم الوزير توطئة بالحديث عن مكانة العراق الحضارية ومؤسسات الدولة والحرص على الحضور النوعي والقوة الجماعية من أجل صعود عربة الجامعة العربية إلى الأعلى، ناصحا العرب بالابتعاد عن التوتر، فالعراق ليس عاملا للتوتر والمرحلة المقبلة تمثل بداية جديدة. استفاض الوزير حتى وصل إلى مشروعه الخاص الدائم في نشر ثقافة المحبة ونبذ الكراهية والعنف؛ ثقافة كما هو واضح تملأ أرض العراق بما تتناقله نشرات الأخبار العربية والعالمية على مدار اليوم، ما عدا طبعا الدائرة الإعلامية المغلقة في وزارة الخارجية.
لا تعليق ولا تفنيد لما ورد في مقدمة الوزير، لكنها في كل الأحوال غير مستساغة لحجم الأهوال خارج نطاق مساحة قاعة المؤتمر والأصداء الخاصة بحكومة حزب الدعوة وما يتم الإعداد له في أروقة ما بعد داعش أو أثناءها في إعادة تأهيل الشخصيات والأحزاب السياسية والطائفية، وكذلك برمجة توقيت انعقاد القمة من أجل طرح عودة النظام الدموي الحاكم في سوريا إلى مقعد سوريا الشاغر في الجامعة العربية؛ والحجة أو المبرر أو الالتفاف حاضرة وساذجة في حرص الوزير على لملمة البيت العربي، البيت الذي لم يدع فيه تنظيم ولاية الفقيه، وهو المرجعية السياسية والطائفية والقومية التي يخضع لها الوزير، بلدا إلا وتمدد فيه بالعنف والتخريب أو بالفتن والتحريض ما استطاع إليه سبيلا ولو على حساب دماء من يتبع مرجعيته من أبناء أمتنا العربية.
الأمين العام تحدث عن الدولة الوطنية العربية، عن الأمة العربية الرشيدة الرحيمة التي تعطي لكل مكوناتها ومواطنيها الحقوق الكاملة ودون قيود أو شروط مع احترام القوانين. الوزير تلقى الإشارة لمأزق العراقيين في ظل دولة كل رشدها ينحسر في تقليد المرشد الإيراني وتطبيق وصاياه. الوزير أسعف الحضور بالتأكيد على السيادة وأن العراق لا يشكو من أزمة في التنظير وأن الشخصيات السياسية التي تقود النظام الديمقراطي أيضا لا تشكو من أزمة تطبيق، مضيفا أن الكلّ ظل مشبّعا بهذا الفهم.
لا أدري فعلا إن كانت كلمة الشبع قد طرقت مسامع الضيف الذي تحمّل في المؤتمر، كما أعتقد، وقبل المؤتمر إسهاب الوزير في منطلقاته عن دوره ودور حكومته في دعم العمل العربي المشترك، حتى يُخيّلُ للسامع أن إبراهيم الجعفري بعضه يمزق بعضه، والمعنى استعارة وحدة الهدف مع أهداف تنظيم ولاية الفقيه لتكون بيانا لفظيا للوحدة مع العرب، الذين لا يجاملهم ولو لمرة واحدة بوصف عائديته لهم أو عائدية العراق بصفته وزيرا لخارجيته. وزير خارجية العراق لا يتجرأ أن يقول أمتنا العربية، إنه يجامل كثيرا لكن لا يقفز أبدا على جذوره الفكرية، نعذره عليها، أما الضيف أحمد أبوالغيط فلم يستطع أن يعذره على التأخير في موعد الغداء الذي اضطره بروحه المصرية المرحة والتلقائية أن يقول مقاطعا الوزير “إنتو في بغداد ما بتتغدوش” فرد عليه الوزير مبتلعا الإحراج من أجل أن تأكل أكثر؛ وتلك إجابة غير لائقة لتاريخ بغداد وأهلها ومكانتهم ومكانة الدبلوماسية العراقية ومن مر عليها من شخوص.
قال الوزير لأحد المراسلين “أحسنت”، لأنه طرح سؤالا عن عودة سوريا إلى الجامعة العربية، رد عليه الضيف بالاختلاف العربي حول هذه النقطة ورهنها بالتقدم في إطار الاتفاق السياسي السوري-السوري؛ لكنّ مراسلا آخر سأل أبوالغيط عن سبب عدم إدانة الدول العربية لإرسالها الإرهابيين إلى العراق؟ وهو سؤال يتناغم مع رأي الوزير الذي تلقف الإجابة من الأمين العام للجامعة العربية الذي وصف السؤال بالملغم وقال “لا توجد دولة عربية لا تكافح الإرهاب وإن العرب سيشاركون في مؤتمر واشنطن في 22 من هذا الشهر لمناقشة مكافحة إرهاب داعش”؛ الوزير استدرك بخبث صريح قائلا للصحافي “ماذا تريد أن يقول لك وهو الأمين العام للجامعة العربية؟”. أي أنه يتفق مع الصحافي على أن العرب يدعمون الإرهاب لكن ذلك يحرج الضيف.
بعد أن شعر الوزير بالحرج استعجل في تعداد مناقب المظلة الدينية للمرجعية وأثرها على وحدة العراق، ويقصد مظلة الفتوى الطائفية لشرعنة سلاح الميليشيات وتمرير قانون هيئة الحشد الشعبي.
حاول الوزير الاسترخاء تماما في البيت العربي، تارة يقتنص وحدة العرب من خلال وحدة قرارهم ضد التدخل التركي في بعشيقة، وأخرى بالمطالبة بالحوار المباشر مع النظام الحاكم في سوريا، ثم يحوّل الأنظار عن مأساة المدن المنكوبة بتعميم التضحيات على كل مدن العراق لأنها تقاتل داعش.
لغط كبير، وبصريح العبارة، ثرثرة بلسان تنظيم ولاية الفقيه الفصيح بنيات المشروع القومي الطائفي؛ لا يمكن أبدا لوزير أن يخفي ما وصل إليه العراق من انتزاع لهويته العربية. السؤال الجاهز الآن ضمن واقع التسوية الدولية لأوضاع المنطقة وما يجري من اتصالات لعودة العلاقات العربية مع العراق، هل هي عودة العراق إلى العرب أم عودة العرب إلى العراق؟
الجواب القاطع في انتزاع العرب للعراق من مخالب تنظيم الدولة الإسلامية الإيرانية، وعلى العرب ألا يتناسوا أن العراق خاض حربا ضروسا دامية بدمائه نيابة عن أمته دفاعا عنها ودفعا للمطامع الإمبراطورية القومية الإيرانية. اليوم يوم العرب في إنقاذ العراق والدفاع نيابة عنه لانتشاله من ورطة الحكم الطائفي، وفتح كل الملفات العنصرية أمام المجتمع الدولي ليطّلع على حجم الجرائم الكبرى التي ارتكبت تحت جناح نظام حكم ظلامي وحشي متخلف تفوّق على التاريخ النازي والفاشي باستغلال برامج أنظمة الحكم الحديثة للتعتيم على المنظمات الدولية رغم تقاريرها عن الانتهاكات الصادمة لحقوق الإنسان في العراق.
أغرب ما يقوله وزير خارجية العراق عن الحشد الشعبي “إننا لا نريد عسكرة المجتمع لكن أي احتلال سيولد مضادات، فماذا نفعل وماذا ينتظر الرجال عندما يُحتّل العراق، الشعب حتما سيحمل السلاح، هذا هو المنطق والدستور والحكم والسيادة وما تفرزه التظاهرات”.
إلى هنا انتهى كلام الدكتور وزير خارجية العراق؛ هكذا لم يعد غريبا أن ينسى الوزير خصال أهل بغداد السامية ونسيان موعد غداء ضيفه بعد أن داهمه النسيان حول منابع دجلة والفرات وتوجه بذاكرته إلى إيران؛ لكن ماذا يفعل الرجال عندما يُحتل العراق؟ فعلا نحتاج إلى جواب شاف، من العرب هذه المرة.