حان موعد بداية جديدة في تاريخ حكم العراق / سلام سرحان
مرحلة الحكم الطائفي في العراق انتهى زمنها باقتحام البرلمان، لكن تم تأجيل رميها في المزبلة إلى حين الانتهاء من طرد تنظيم داعش من جميع الأراضي العراقية.
تحرير الموصل وما تبقى من الأراضي العراقية من تنظيم داعش أمر حتمي، وهو ليس سوى جزء ضئيل من المخاض المؤلم والاستحقاق الكبير الذي ينبغي حسمه خلال الأسابيع المقبلة.
جميع الإحداثيات الإقليمية والمحلية والعالمية تفرض نهاية قريبة للمرحلة المظلمة، التي بدأت بسقوط بغداد عام 2003 والتي سادها فشل الدولة بعد أن طردت العملة الطائفية الرخيصة جميع العملات الجيدة واجتثت آخر ملامح الكفاءة في إدارة الدولة.
تلك المرحلة الطائفية المظلمة من تاريخ العراق انتهت بالفعل، منذ بلغت الاحتجاجات في بغداد وجميع مدن وسط وجنوب العراق ذروة رفضها لحكم الأحزاب الدينية، باقتحام المتظاهرين للمنطقة الخضراء ومبنى البرلمان.
تلك النهاية حدثت مبكرا وفي غير أوانها، وخشية المجتمع الدولي من حدوث فراغ سياسي في ظل وجود تنظيم داعش في الموصل، لكن تلك الاحتجاجات والصحوة الشعبية بضرورة انتهاء هيمنة الأحزاب الدينية ستتجدد بزخم أكبر في موعدها بعد تحرير الموصل وجميع الأراضي العراقية.
ذلك الموقف الشعبي الرافض والمصمم على نهاية تلك المرحلة، هو أكبر مسمار في نعش تلك المرحلة، حيث أدرك العراقيون والعالم أن أنظمة الحكم الدينية والطائفية هي السبب الرئيسي والوقود السري لظهور داعش.
اليوم نضجت أوجاع الانهيار التام لتلك المرحلة بعد أن بلغت ذروتها بانهيار الجيش وتسليم ثلث مساحة العراق لعصابة إرهابية، حين اعتقد نوري المالكي أن ذلك هو السبيل الوحيد لضمان الولاية الثالثة، بعد أن رفضتها جميع الأطراف السياسية.
ينبغي أن نتذكر أن الانهيار حدث بعد 70 يوما من انتخابات مارس 2010، وفجرها غضب المالكي من استعصاء تمرير الولاية الثالثة، ورفضها من قبل جميع الأطراف السياسية الشريكة في الخراب. ما كان بالإمكان سقوط الموصل والمحافظات الأخرى، لو كانت في بغداد حكومة مدنية تؤمن بالمواطنة المتساوية لجميع العراقيين. بل إن تحرير تلك المحافظات كان سيكون أسهل بمئات المرات لو شعر سكانها أن في بغداد حكومة غير طائفية.
اليوم نضجت أيضا إرادة دولية لانتزاع العراق من قبضة إيران، بعد أن امتدت نيران ما يحدث في العراق وسوريا إلى أنحاء العالم وخاصة الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي لم يعد بإمكانها البقاء متفرجة. وإذا تم قص أصابع إيران في الشرق الأوسط، فمن غير المستبعد أن يؤدي ذلك إلى نهاية مشروع الثورة الإيرانية الذي بدأ قبل 38 عاما، وقد يؤدي سقوط ذلك الحجر الكبير إلى انهيارها وربما تقسيم إيران، وهذا موضوع آخر.
أكبر فخ لإخراج إيران خارج عجلة التاريخ كان الاتفاق النووي، الذي مثل بداية نهاية مرحلة بدأت عام 1979 بوصول الخميني من كهوف التاريخ إلى السلطة، ليشعل فتيل ظهور الأحزاب الدينية في جميع الدول الإسلامية، لتنخر جسد المجتمع المدني وأجهزة الدول المدنية.
نظام الحكم في إيران لن يتغير خلال أيام، لكن الاتفاق النووي أدخله في مخاض وصراع بين من يبيعون الشعارات الدينية، وبين من يريدون إبرام الصفقات والاستثمارات من أجل إنعاش الاقتصاد الإيراني. وسوف يتعمق ذلك الصراع تدريجيا بعد أن أصبح لدى الإيرانيين ما يمكن أن يخسروه. وهو ما ظهر جليا في رعبها من احتمال إلغاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب لذلك الاتفاق.
طهران لا تستطيع اليوم العودة إلى ما كانت عليه قبل رفع العقوبات، فهي تصدر الآن أكثر من ضعفي ما كانت تصدره من النفط، وتتسابق إليها الشركات لاستكشاف فرص الاستثمار، وعليها أن توفر مناخ الاستثمار المنضبط تدريجيا، وهي مسألة وقت لا أكثر.
إنجاز الرئيس الأميركي باراك أوباما الهائل، الذي لن يعرف العالم قيمته، أنه أدرك أن إيران ستبقى إلى عشرات وربما مئات السنين تتدخل في جميع الدول الإسلامية، إلا إذا أحدث شرخا في بنية النظام، وجعل الإيرانيين يحلمون بدولة منتعشة اقتصاديا وملتزمة بالمعايير الدولية، وسوف يحدث ذلك تدريجيا وسنرى ثماره في العراق قريبا.
لم يكن بالإمكان أن يستقر العراق خلال السنوات الماضية في ظل العقوبات المفروضة على إيران، ولم تكن الولايات المتحدة قادرة على فعل أي شيء في العراق في ظل تحكم أتباع إيران بالساحة السياسية العراقية.
بعد الاتفاق النووي، أصبحت لدى المجتمع الدولي عصا كبيرة وجزرة أكبر تتعامل بهما مع طهران، وهي تستطيع مكافأتها بتسهيل بعض الصفقات، وتستطيع التلويح بالعودة لتشديد العقوبات، ولذلك أبقت واشنطن على حزمة طويلة من العقوبات لكي تكون قادرة على انتزاع العراق تدريجيا من قبضة طهران.
مرحلة الحكم الطائفي في العراق انتهى زمنها باقتحام البرلمان، لكن تم تأجيل رميها في المزبلة إلى حين الانتهاء من طرد تنظيم داعش من جميع الأراضي العراقية. نهاية تلك المرحلة ستكون فور تحرير جميع الأراضي العراقية، حينها سيبرز الاستحقاق الكبير: كيف سيتم حكم تلك المحافظات، وما هو مستقبل شكل الحكم في العراق؟ وسوف يشتعل الصراع بشأن الخيارات المرة بين المطالبين بإقليم طائفي أو أقاليم المحافظات، وبين تفكك العراق إلى دويلات.
من المرجح أن تعجز الخيارات المرة بسبب المصالح الإقليمية والدولية التي ترفضها، وبشكل أكبر بسبب وعي معظم سكان العراق بأن الأحزاب الطائفية هي عدوهم الأكبر، وخاصة سكان وسط وجنوب العراق، الذين أدركوا خطورة الأحزاب الدينية.
سيكون هناك خيار واحد حتى لو تم على مرحلتين؛ الأولى انتقالية تتفكك فيها التحالفات، ويعلن رئيس الوزراء حيدر العبادي انسحابه من حزب الدعوة وتشكيل كتلة برلمانية عابرة للطوائف. وسوف يسارع معظم النواب للانضمام إليها، وبينهم أكبر الفاسدين والطائفيين للهروب من السفينة الغارقة والنجاة من المحاسبة. وسيؤدي ذلك إلى تشكيل حكومة مرتبكة تكون هي الخصم والحكم، وستحاول ترقيع أخطاء وجرائم المرحلة الماضية ومحاسبة بعض المجرمين والفاسدين، لكن طموحات الشارع ستكون أكبر من قدرتها على الترقيع وستجبرها على التعثر وبلوغ المرحلة الحاسمة.
سيكون الخيار الحتمي أن يتجه العراق، الذي أصبح هاجسا دوليا، إلى انتخابات عامة بإشراف دولي لم يسبق له مثيل. ومن المرجح ألّا تتمكن الأحزاب الدينية من الفوز بأكثر من 20 بالمئة من الأصوات، بسبب التغيرات الجذرية في كل العوامل المحلية والإقليمية والدولية.
الدلائل كثيرة في المناخ المحلي والإقليمي والدولي، خاصة ما أظهرته احتجاجات العراقيين على الفساد والطائفية، وهي ترجح أن غالبية كبيرة من العراقيين لن تنتخب الأحزاب الدينية مرة أخرى، بعد أن ظهرت خلاصة الدمار الذي أحدثته في حياتهم.
رغم بساطة القول إن “الناس على دين ملوكهم” فإن فيه الكثير من الحقيقة، فبمجرد تشكيل حكومة عابرة للطوائف لا تستند إلى احتكار الحقيقة المطلقة، ستبدأ مرحلة تقصي مواطن الخراب وستبدأ العملات الجيدة بطرد العملات الرخيصة من مفاصل الدولة.
سيبدأ العراق مرحلة جديدة تختفي فيها حقوق الشيعة والسنة والأكراد والأقليات الأخرى، إذا أصبحت الدولة تعتمد المواطنة المتساوية للجميع. هل في ذلك تفاؤل مفرط؟ نعم.
كاتب عراقي