مساهمة للبحث في جذور الكارثة في العراق بقلم: صباح علي الشاهر
ما حدث في العراق لم يكن اخطاء لهذا الحاكم الأمريكي أو ذاك. كان العمل منهجيا على تفكيك الدولة بحجة تفكيك الدكتاتورية
ليس من المفيد بالمرة تبسيط الأمور، وليس من المعيب الإقرار بأن الوضع في العراق بالغ التعقيد، ولا توجد وصفة سحرية لعلاجه، وبالأخص حينما لا يتم تشخيص علل وأسباب الكارثة التي يعيشها.
هذا البلد تعرض لإحتلال، إحتلال خطط له بشكل جيد، ولم يأت كما يتصور البعض نتيجة لرغبة بوش وبلير، وقد يكون الأمر معكوسا، فلربما جيء ببوش وبلير لتنفيذ مهمة الإحتلال.
الذرائع التي رددها المحتلون وأذنابهم سرعان ما طواها النسيان، ليس هذا فقط، بل إعترف فرسان الإحتلال بأنها لم تكن سوى أكاذيب، لكنك لا تعدم وجود بعض المغفلين الذين ما زالوا يرددونها، متصورين بأن الناس بلا ذاكرة، رغم أن الأيام أثبتت صدقية ما قاله أعداء الحرب وما حذروا منه.
قبل أن يبدأ حرق بغداد كان المخططون للإحتلال قد هيأوا الأتباع الذين رافقوهم في غزوهم لبلدهم، أو جاؤوا بعد أن مُهد الطريق لهم، وتوزعوا على كامل مساحة البلد الذي أضحى محتلاً.
لقد دربت مخابرات الإحتلال كفاءات من أبناء البلد، في شتى المجالات، الأمنية والعسكرية، والإدارية، والدينية، وبالأخص الثقافية، وأنفقت على المستشارين والأتباع بغير حساب، ثم وضعت بأيديهم، وتحت تصرفهم وسائل الإعلام كافة، والتي إستحدث أغلبها، من دور نشر، وصحافة، وإذاعات، ومحطات تلفزة، ومواقع الكترونية، ومراكز بحثية وثقافية، ومنظمات مجتمع مدني بلا حصر.
كان الناس في غاية الإنهاك والتعب، محرومون من كل شيء تقريباً، وبفضل نظام البعث الهمجي كانت الساحة السياسية تكاد تكون خالية، إلا من تنظيمات الحزب القائد. أما في المجال الثقافي فكان الإستبداد قد أعاق نموه الطبيعي، ولم يكن بالإمكان ظهور فن وأدب حقيقين مع إستشراء ظاهرة النفاق والإخصاء، إلا ما ندر، وكان المواطن العراقي في عزلة تكاد تكون شاملة عما يحيط به، محروم من التواصل مع منتجات العلم والثقافة، وممنوع من قراء الصحف بإستثناء صحافة السلطة وابن السلطة المدلل، وكان حكم من يكتشف أن لديه ستلايت حكماً قاسياً، وكان يكفي للحكم بالإعدام على المواطن الذي يكتشف حيازته على هاتف محمول (الثريا) مثلاً. ومن جهة أخرى فقد صور مروجو ثقافة الإحتلال الذين جاءوا بمعية المحتل، أو إثر الإحتلال، صوروا الوطنيين الذين كانوا ضد حصار وإحتلال بلدهم كما لو كانوا مساندين ومؤيدين للنظام الديكاتوري، رغم أنهم كانوا ضحايا هذا النظام ومن أكثر المتضررين منه، وساعدهم موقف ممثل اليسار، الحزب الشيوعي، الذي كان مهادناً للإحتلال ومستفيدا منه، والذي شجع على إتخاذ مثل هذه المواقف خصوصاً وأن أغلب معارضي الإحتلال هم من العناصر التي كانت شيوعية، وهي عناصر تحمل لوماً شديداً وقاسيا لقيادة الحزب على موقفها الذي عدته موقفاً (غير وطني)، ويشكل تفارقاً عما عرف من مواقف تاريخية لليسار عموماً.
ولأمر يتعلق بالموقف من الإحتلال، ومن حكومات ما بعد الإحتلال، فقد إمتنعت أعداد غفيرة من رافضي الإحتلال عن التواجد في بلدها، رغم أن الحاجة كانت ماسة لمثل هذا التواجد، وهذا أمر سهل كثيراً من مهمة المشايعين للإحتلال، وأسهم كثيراً في تمرير الخديعة.
****
جاء الأميركان فجلبوا الكوكاكولا، والفضائيات، والموبايلات، وفتحوا الحدود ليدخل كل شيء للبلد الذي كان مُحكم الغلق.. وإذ كان كل شيء ممنوعاً في البلد، فقد أضحى كل شيء مباحا، بما فيه القتل، والنهب، ودشنت الفوضى الخلاقة.
وعلى نحو مدروس ومخطط، وبحجة القضاء على إمكانية عودة الديكتاتورية، تم وبشكل إجرامي حاقد تدمير الدولة، وتخريب المجتمع.
لم يكن ما حدث أخطاء تنسب إلى غارنر أو بريمر أو أي مسؤول أميركي، وإنما هو نهج كان ينبغي أن يتخذ، وإجراءات ينبغي أن تنفذ بالكامل.
المواطنون الذين إعتادوا على رؤية التلفزيون العراقي وتلفزيون الشباب، وجدوا أنفسهم فجأة أمام عشرات بل مئات شاشات التلفاز المبهرة، ليس بينها – وليس صدفة- شاشة واحدة تغرد خارج السرب، فهي وإن إختلفت في الطرح والإسلوب، إلا أنها كانت بالمجمل تتفق في الهدف، ونفس الشيء حدث بالنسبة للصحافة الورقية التي كانت توزع أحياناً بالمجان، وكل هذه المؤسسات الإعلامية التي تكاثرت كالفطر، وبالإضافة إلى آلاف المنظمات المدنية، إستوجبت عاملين، ولا يهم إن كانوا مدربين أو أكفاء، بل المهم أن يكونوا مستعدين لتسويغ ما سُمي بالتغيير.
****
لم يكن أي تنظيم من تنظيمات مرحلة ما سُمي بالتغيير يمتلك قاعدة جماهيرية، وهذا أمر معروف بسبب عنف السلطة الإستبدادية ودمويتها، كانت التنظيمات بالخارج عبارة عن أفراد مشتتين، تم جمع بعضهم على عجل، أما في الداخل فلم يكن من المتوقع أن تنشأ تنظيمات سياسية حقيقية، لذا نشأت بحكم الواقع تنظيمات تدور حول شخصيات دينية، وببعد ديني وطائفي في الأغلب، إضافة إلى الأحزاب التي كانت قد نشأت على أسس عرقية، كالأحزاب الكردية، لقد جرت محاولات لتأسيس أحزاب بعيدة عن هذا المنحى، كمحاولة أعادة تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي، أو التيارات الملكية، أو حتى تأسيس تنظيمات بمحتوى يساري، لكن المحاولات فشلت فشلا ذريعاً، وأضطر أصحابها إلى الإنضواء تحت راية المهيمنين الذين حولوا الدولة بأجمعها منافع لهم.
كيف تحول الذين لا قاعدة جماهيرية لهم إلى فرسان صناديق الإقتراعات؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في المقال القادم.