العراق والسعودية.. وخسارة الطائفيين / رشيد الخيون
أثارت زيارة وزير خارجية السعودية لبغداد مؤخراً ردود أفعال متباينة في الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، فهناك مَن اعتبر الزيارة خضوعاً سعودياً واعترافاً بقلة الحيلة، وأفصح عن حزن شديد لمحاولة إنهاء القطيعة منذ 1990. بالمقابل اعتبرها طرف آخر نصراً مظفراً للدبلوماسية السعودية، بل نشرت إحدى الصحف مقالاً يصف الزيارة بـ«الهجوم». أما مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية فأخذت تلهج بتكريس الكراهية، وكأن الحرب قد دُقت طبولها، فلو أُخذت العلاقات بين الدول وفق رغبات الطائفيين وأهل المصالح، لتعذرت الحياة.
لا تختار البلدان جوارها، إنه قدرٌ لا بد من التعامل معه بأقصى التعقل، فالعراق يعيش بين ست دول، ولكل دولة حدود طويلة معه، وتاريخ مشترك: السعودية والأردن والكويت وسوريا وتركيا وإيران، وكانت الأخيرتان تتنازعان على أرضه لقرون، حتى قال قائل: «بين العجم والروم بلوة ابتلينا» (العزاوي، العراق بين احتلالين). ترك النزاع أثره على التركيبة الطائفية داخل العراق، أثر يبرز كلما تصلبت العلاقات بين إيران وتركيا، فكلٌّ يحاول تحريك القوى الطائفية السائرة في ركابه.
أما علاقة العراق بالسعودية، وقد نشأتا كدولتين مستقلتين معاً، في عشرينيات القرن الماضي، فقد شابها الكثير من آثار الماضي، ومنها آثار حرب الحجاز. يومها لم تتقدم الحكومة العراقية بالمواساة بوفاة الملك عبد العزيز (1953) (وهبة، خمسون عاماً في جزيرة العرب). على الرغم من أن معاهدةً عُقدت بين البلدين عام 1940 وأنهت مشاكل الحدود وغيرها. يغلب على الظن أن الحكومة العراقية قد أخذت بنظر الاعتبار إيواء رشيد عالي الكيلاني (ت 1965)، بعد انقلابه عام 1941 لصالح ألمانيا.
استغل الجواهري (ت 1997) زيارة الأمير فيصل بن عبد العزيز إلى بغداد (1932)، فمدحه بقصيدةٍ عصماء، ونشرها في «أم القرى»، وحينها استاءت العائلة المالكة ببغداد، ليس لمدح الأمير وإنما لنشرها في صحيفة حجازية، وما لذلك من دلالات، ومنها: «على سعةٍ وفي طُنف الأماني/ وفي حبَّات أفئدةٍ حواني/ بقربِ أخيهما كرماً ولطفاً/ وثائرة يُسرُّ الرَّافدان» (الديوان).
يصف الجواهري اغتنام المناسبة قائلاً: «كانت بمثابة إلهام لقصيدة حلوةٍ بكل حروفها» (الجواهري، ذكرياتي). لكن على الرغم مِن تردد اسم الوهابية آنذاك، والذي عكسه «إخوان مِن طاع الله» في غزواتهم، لم يُجابه الجواهري باعتراض على قصيدته تلك، وقد أعاد نشرها في دواوينه. مثلما لم تحذف قصيدة المرجع الديني السيد محمد سعيد الحبويي (ت 1915) من طبعات ديوانه، ولم يستنكرها أحد، وكانت الخصومة مع الوهابيين معروفة: «بلادُك نجدٌ والمُحبُ عراقي/ فغير التَّمني لا يكون تلاقي/ ولو أن طيفاً زار طرفي ساهداً/ لكنتُ رجوتُ القرب بعد فراقي» (الديوان). أظن أن الأمر كان بعيداً عن التحشيد الحزبي الطائفي بفرعيه.
لكن الأهم مِن شوائب العلاقات السعودية العراقية إصرار «إخوان من طاع الله» على غزو العراق عدة مرات، ولم تقف تجاوزاتهم إلا بعد القضاء عليهم مِن قِبل الملك عبد العزيز، وقد أصبحوا عثرةً أمامه لتأسيس الدولة، وهم يُريدونها غزواً مستمراً تحت رايتهم، حصل ذلك في معركة «السبلة» (1929)، فأنهى وجودهم، وهنا فُتح المجال للقاء الملكين عبد العزيز وفيصل (ت 1933) على ظهر باخرة «لوبن»، ومن يومها استمرت العلاقات، مع ما كان يشوبها بين الحين والآخر من عثرات، لكنها لا تتدهور إلى حد القطيعة.
ظلت العلاقات في العهد الجمهوري (1958 وما بعدها) سليمة، وقُبلت وساطة السفارة السعودية بتسفير ما تبقى من العائلة المالكة، بعد اللجوء إليها. ويذكر مدير الاستخبارات محسن الرُّفيعي (ت 2006)، رسالة تفيد بأن جماعة سعودية، خلال الخصومة المصرية السعودية، تطلب العون ضد حكومتها، ولها رغبة بمقابلة عبد الكريم قاسم (قُتل 1963)، قال: «عَرضتُ الرِّسالة على الزعيم، وكان جوابه: نحن لا نشجع مثل هذه الحركات، ولا مصلحة لنا فيها» (الرُّفيعي، أنا والزعيم). أما بعد احتلال الكويت (1990) فقد اختلف الأمر واستمر عدم الثقة والتوجس بعد (2003).
ما كتبه الحريصون، من عراقيين وسعوديين، هو أن التفاهم من مصلحة البلدين، وإذا صار العراق هدفاً للإرهاب، وكفَّرت «داعش» حكومته وأهله، فإن «ولاية نجد» التابعة لـ«داعش» قالت عن الحكومة السعودية نفسها من منكر القول ما قالت، متوعدة بمد خلافتها لنجد والحجاز، حتى كتب محمد آل الشيخ، رابطاً بين «داعش» والإخوان القدماء، «لا حلّ إلا حلّ السِّبلة2» («الجزيرة» السعودية 8/6/2016).
ليس مِن مصلحة العراق بناء علاقاته على أساس مصالح دولة أخرى، ونرى في حكومة العبادي، لو أُعطيت فرصة اتخاذ القرار، الأفضل في التعامل مع الجوار، فالوطنية العراقية لم تُسقط من حسابه مثلما أسقطها قادة الجماعات الدينية.
أقول: سيتضرر فريقان من تلاقي الرياض وبغداد: من يفقد مسوغ تحشيده الطائفي المسلح، وآخر يفقد ما يتأمله من الدعم باسم المظلومية، والفريقان لا يخرجان من مظلة الإسلام الحزبي، ففي كل الأحوال التلاقي خسارة للطائفيين.