أهل الموصل بين القصف «الإنساني» والكيميائي! / هيفاء زنكنة
كأن القصف والتجويع لم يعد كافيا في مدينة الموصل، شمال العراق، فها قد تصاعدت، في الأسبوع الماضي، أبخرة السلاح الكيميائي لتضيف إلى مأساة الأهالي مأساة جديدة. ما بدأ بوعود التحرير تحول، خلال أيام قليلة، إلى معركة تتصارع فيها قوى تدير المعركة عن مبعدة بالمدفعية والصواريخ وهي آمنة محصنة، بينما يعيش الأهالي طعم الموت اليومي، بأشكال تراوح ما بين النزوح والاختطاف والموت الفعلي.
فخلال الأيام القليلة الماضية، بلغ معدل النازحين من جحيم القتال، عشرة آلاف نازح، يوميا، في «أكبر موجة نزوح منذ بدء عمليات تحرير نينوى»، حسب وزير الهجرة والمهجرين، داعياً إلى «اتباع إجراءات عسكرية وأمنية لتقليل تلك الأعداد». وهي دعوة لا تزيد عن كونها جعجعة بلا طحين، فالوزير جزء من حكومة تتغذى على الفساد الذي بلغ، بعد استنزافه خزينة البلد لأربعة عشر عاما منذ الاحتلال، حد تسول القروض والمساعدات من المجتمع الدولي ومن ثم التهامها، لتبرز طبقة سماسرة حرب تعيش على مأساة المهجرين، بالإضافة إلى استفادة كل الجهات المتقاتلة، بلا استثناء، من سوق صفقات السلاح والعمولات الخيالية التي يتقاضونها، في منافسة حولت الساسة من معتاشين على المساعدات الاجتماعية في الدول الغربية، عندما كانوا مغتربين فيها، إلى مليونيريه نظام « العراق الجديد».
إن حجم الفساد المالي والإداري، الذي يبطن الحكومة، والتقاتل بين المسؤولين والنواب على الصفقات، والعقود، وضخ مخصصات الميليشيات «الجهادية»، يجعل العراقيين، أينما كانوا، في أرجاء البلد، عبئا يجب التخلص منه، بأية طريقة كانت، بضمنها السلاح الكيميائي. وهذا ما حدث في الأسبوع الماضي، فبالإضافة إلى ضحايا قصف التحالف الدولي، غير المعلن عنهم، أكدت منظمة «الصليب الأحمر الدولية» وصول 12 مدنيا، بينهم أطفال، إلى مستشفى في مدينة اربيل للعلاج من أعراض استخدام الغاز وهي تقرحات واحمرار في العيون وتهيجات في الجلد وتقيؤ وسعال.
لم توجه المنظمة الاتهام إلى أية جهة لأن توجيه الاتهامات ليس من صلب عملها، وإن سارعت أجهزة الإعلام، بأنواعها، إلى تطعيم خبر المنظمة بجمل على غرار «وأصابع الاتهام تتجه كلها نحو تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش)، كما فعلت قناة «فرانس 24»، والعديد من القنوات العربية، في الوقت ذاته الذي أصدرت فيه ليز غراندي، منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في العراق، بيانا في 4 آذار / مارس، أعربت فيه عن صدمتها من مزاعم استخدام الأسلحة الكيميائية في أحياء الموصل.
مؤكدة بأن استخدامها «انتهاك خطير للقانون الإنساني الدولي وجريمة حرب».
ولعل ما يسترعي الاهتمام في البيان هو عدم اتهامها تنظيم «داعش»، كما هو متوقع، بل إنها ضمنت تصريحها ما يوحي باستخدام جهات أخرى لهذا النوع من السلاح مضيفة: «بغض النظر عن الأهداف أو ضحايا الهجمات. لم يعد هناك مبرر، لا شيء على الإطلاق، لاستخدام الأسلحة الكيميائية». داعية «الجميع إلى العمل بمسؤولية ومنح ضمان الوصول الفوري للجهات المختصة للتحقيق في ملابسات الهجوم المزعوم».
قد تثير هذه التصريحات، وما سبقها على مدى شهور حول احتمال لجوء تنظيم « داعش» إلى استخدام السلاح الكيميائي، تساؤلات عن جدوى النقاش حولها، بالنسبة إلى أهل الموصل عموما وذوي الضحايا خاصة، وعما إذا كانت هناك فائدة، أساسا، من نقاش حول حجم جرائم منظمة، كداعش، تجد في ارتكابها الجرائم، كما العديد من الدول، أداة ترويع وإرهاب ضرورية لتحقيق الانتصارات.
هذه تساؤلات مشروعة، حقا، لكثرة خيبة الأمل في تطبيق القانون، المحلي منه والدولي والإنساني، ولانضواء الحكومات والمنظمات الدولية تحت راية « الحرب على الإرهابـ»، وسهولة استخدام مشجب «داعش» لتعليق كل الاتهامات والجرائم. فصار لكل جهة، سياسية أو إجرامية، ناشطة ضمن الدول أو خارجها، ومهما كانت طبيعة مصلحتها، «داعشها» الذي تخيف به الآخرين، وتبتز من خلاله الدعم المادي، وتحجب حقيقة ما يجري، مستثمرة ذلك الخوف والتضليل، لمصلحتها. حيث يصبح بإمكانها استخدام أي سلاح ترغب باستخدامه، مهما كان محرما، ما دامت تعرف بأنها قادرة على الإفلات من المسؤولية والعقاب. إذ أثبتت سنوات الاحتلال إن سياسة الإفلات من العقاب تمنح مرتكبي الجرائم حصانة تكاد تكون مقدسة في أجواء تتجاوز أجواء الغابة في وحشيتها واستهدافها المدنيين.
إن إلقاء نظرة واحدة، على حال النساء والأطفال وكبار السن، وهم يحملون ما خف حمله من ممتلكاهم بيد وقطعة قماش بيضاء للدلالة على «لا إرهابيتهم»، وأملهم بالنجاة من سعير جحيم القتال، زحفا باتجاه أماكن يظنونها آمنة، بينما يتم عزل الشباب ونقلهم إلى أماكن مجهولة، وقد لا يرون ثانية، يجعل صورة المستقبل موحلة، كما هو الحاضر، بطين الإهانة والمرارة والغضب والرغبة بالانتقام.
إن ما لم يرغب ساسة «العراق الجديد» برؤيته هو إن للعراق شعبه، وإن المحافظة على الوطن والأمة يتطلب تحقيق العدالة للمواطنين، وليس خدمة القوى الخارجية وفتح أبواب الوطن لإرهاب المحتل ومن ثم ترسيخ بقائه بحجة «محاربة الإرهاب». ما لا يرغبون برؤيته، أيضا، هو إن التحقيق في هوية مرتكبي الجرائم الفردية والجماعية، « إنسانية» كانت أو كيمياوية، ومعاقبتهم، وفق القانون، هو الحد الفاصل بين غوغائية الحكومة وتمثيلها للشعب.