مشروع الصدر.. هل يقدم حلا لمرحلة ما بعد داعش / د. ماجد السامرائي
مشروع الصدر إذا ما طرح للحوار بين السياسيين العراقيين المخلصين من داخل العملية السياسية وخارجها، ومن دون دوافع حزبية انتخابية يشكل أرضية مفيدة لبلورة مشروع عراقي عابر للطائفية لما بعد داعش.
أطلق مقتدى الصدر في العشرين من هذا الشهر مشروعه لما بعد داعش. وهي أول مبادرة سياسية من أحد أقطاب البيت الشيعي الحاكم لمعالجة الأوضاع بعد تحرير الموصل وبقية الأجزاء من عصابات داعش. هذه المبادرة تكتسب أهميتها أكثر من تسوية عمار الحكيم، من كون صاحبها أكثر جرأة من الزعماء الشيعة الآخرين الذين يكتمون مشاريعهم لأغراض تكتيكية وتركها للمناورات المقبلة، وأعتقد أن تفاعلهم مع هذا الإعلان الصدري إن لم يكن الإهمال فسيكون مجتزئا ويفتقد الجرأة مثلما قدم الصدر في مشروعه. وقبل أن نحكم على مبادرته بالسلب أو الإيجاب لا بد من انتظار النتائج الأولية لمثل هذا المشروع الحيوي نظريا، ولا بد من تحليل جوانبه الرئيسية.
مبادرة الصدر تعالج المحورين العسكري والسياسي، اللذين يشكلان الأزمة السياسية في العراق وهي أزمة لم تبدأ باحتلال داعش للعراق والتي هي واحدة من النتائج لتلك الأزمة. الصدر لديه الجرأة على تشخيص بعض مظاهر تلك الأزمة ونتائجها التي شملت كل العراقيين سنة وشيعة وأقليات أخرى، وهو يتميز عن غيره من قادة الحكم بأنه يلامس الحس الشعبي المأزوم، ويتعاطى بمفردات لا تسمح لعموم العراقيين بأن يخالفوها أو يشككوا بصحتها، لكنه لا يخرج عن اللعب بالمشاعر الشعبية دون أن يقدم الحلول الجذرية التي تقترب من بنيان العملية السياسية التي هو أحد أركانها، ودائماً ما يعلن أنه داعية إصلاح لسلبيات هذه العملية وسياسات الحكم وأحزابه وميليشياته، وهو يعلم أن المشكلة السياسية وعمقها تتطلب حلولا جذرية غير ترقيعية، ذلك أن النقد التشخيصي قد يكون مهما رغم عدم دخوله في عمق المشكلة العراقية وهي بنية النظام السياسي الذي دائماً ما يدافع عنه.
ومع ذلك فإن مقدمات معالجة المرض هي التشخيص الدقيق ثم وضع العلاج السليم، وتشخيص الحالة العراقية لوحده لا يؤثر على هيمنة المسؤولين من رفاقه بالحكم الذين قد لا يرفضون الأفكار التي جاء بها في مبادرته، لكنهم يمتلكون القدرات لتمييعها، وهو يعرف ذلك جيداً، وهناك أمثلة قريبة على ذلك في دعواته لإصلاح منظومة الحكم التنفيذية التي بقيت عبارة عن شعارات للمتظاهرين في الساحات لم تتمكن من اختراق الجدران التي بنتها العملية السياسية حول نفسها، حيث تحولت المحاصصة الطائفية إلى انفراد طائفي لا ترضى الأحزاب الكبيرة التراجع عنه، وإن تراجعت في الشعارات فإنها تلعب بوضع صيغ بديلة أكثر إيغالاً بالتفرد مثل شعار الأغلبية السياسية أو دعوات التسوية.
يحاول مقتدى الصدر استباق غيره في تقديم رؤية سياسية تبدو مستقلة حول استحقاقات ما بعد داعش، رغم أن مشروعه أهمل قضية مركزية هي دور الفساد في انتشار داعش العسكري في نينوى وفي غيرها، فسبب مهم من أسباب عجز القوات المسلحة عن مواجهة المئات القليلة من الداعشيين كان الفساد، حسب اعتراف رئيس الوزراء حيدر العبادي بوجود الآلاف من العسكريين ممن أسماهم “الفضائيين”، لكننا لم نسمع عن محاسبات قانونية بحق الفاسدين ومن يحميهم داخل نظام الحكم، وقد أعلنت منظمة الشفافية الدولية في تقرير بتاريخ 21 فبراير 2017 عن الترابط بين الفساد وداعش، وأكدت أن فساد المؤسسات الرسمية في منطقة الشرق الأوسط، والعراق بشكل خاص، يؤدي إلى الإحباط الشعبي والتطرف.
خطورة المرحلة المقبلة كونها تشكل مفصلا رئيسيا في تحولات كبيرة ستحصل في العراق، خصوصاً في تأثير القوى الإقليمية والدولية وفي المقدمة كل من إيران وأميركا، ودخول روسيا أخيراً على الخط بعد اعتقادها بنجاحها في الملف السوري، حيث دعت إلى إجراء حوار عراقي من داخل العملية السياسية وخارجها برعاية موسكو.
الصدر في مبادرته أهمل التأثير الإقليمي والدولي في الحل، كإيران وتركيا وأميركا وروسيا والدول الأوروبية. أما القوى العراقية الحاكمة فتعيش قلقا كبيرا ولا تمتلك رؤى واضحة لمواجهة استحقاقات تلك المرحلة والتحولات التي ستحصل من دون تدخل دولي وإقليمي.
السبب الرئيسي في تعقيدات القضية العراقية هو إصرار الأحزاب الحاكمة على عدم التخلي عن سياساتها الطائفية، وعزل العراق عن حاضنته العربية في وقت يتصاعد فيه الصراع السياسي بين الأطراف الشيعية حول الفوز القادم بالسلطة، حيث تحاول القوى الميليشياوية أخذ زمام المبادرة في المراحل النهائية لمعركة الموصل لمسك الأرض وإبعاد أهل الموصل ووجهائها من ترتيب وضعهم السياسي لما بعد داعش. هنا يقدم الصدر رؤيته بضرورة الإشراف الأممي على العملية السياسية في الموصل وإجراء انتخابات محلية، وهو حل يلتقي مع غيره في عدم إعطاء أهل الموصل حرية اتخاذ قرارهم المستقل. يحاول الصدر تكرار ما قدمه عمار الحكيم في مشروعه للتسوية، فيدعو إلى مصالحة وطنية شعبية وليست للطبقة السياسية، ولا ندري كيف يمكن تحقيق مثل هذا المشروع، وهل إن عرب العراق من الشيعة والسنة هم المتحاربون في ما بينهم؟ وهو يعيد ما قاله مشروع تسوية الحكيم “باستثناء البعثيين والإرهابيين”، علما بأنه إذا كان تنظيم داعش هو عنوان الإرهاب الأول فكيف سيتم استثناؤه من المصالحة، وهو هدف عسكري يتم إنجازه بتكاتف أميركا والعالم والعراق بالقضاء النهائي عليه وطرده.
يحاول الصدر إبعاد المصالحة عن اللعبة الانتخابية المقبلة، وهو أمر صعب التحقق، فيما تضمن مشروعه السياسي تشكيل “هيئة عليا لشؤون الأقليات”، وكأنه وضع العرب السنة في هذه الخانة مع أن مشكلتهم الأكبر هي في التغييب والمحاصرة، ولن يتم حلها بالتمنيات والكلمات الرقيقة، بل هم بحاجة إلى تطمينات جدية عبر سياسات متواصلة على الأرض. أعتقد أن الجانب السياسي في مشروع الصدر فيه الكثير من الإيجابيات، ويصعب عليه تقديم أكثر من ذلك وهو ركن مهم من أركان العملية السياسية. أما واقعياً فقد وجدنا خلال السنوات الثلاث الماضية عدم قدرة شعاراته الإصلاحية المقترنة بمظاهرات شعبية على تحقيق أي إنجاز لصالح الناس المقموعين والمظلومين.
أما مشروعه في الجانب الأمني والنتائج المترتبة على معركة الموصل، فأعتقد أنه كان أقرب إلى الحلول السليمة من الجانب السياسي من خلال مطالباته بضرورة مسك الأرض من قبل القوات المسلحة حصراً، مع أننا نرى صعوبة ذلك لأن القوات المسلحة لديها مهمات إتمام تحرير باقي الأراضي المحتلة من داعش غرب الأنبار وشمالها. والدعوة إلى مسك الحدود من قبل القوات المسلحة فقط، ومطالبته بدمج قوات الحشد الشعبي في القوات المسلحة هي دعوة تتناقض مع قرار العبادي اعتبار الحشد الشيعي قوة رديفة للقوات المسلحة، إضافة إلى تناقض طلبه بجمع السلاح المتناثر وحصره بيد الدولة مع الحفاظ على هيبة “الجهاد والمقاومة”، ولا نعرف كيف سيتم ذلك؟ وكذلك مطالبته بغلق مقرات الفصائل المسلحة وتحويلها إلى منتديات مدنية ثقافية، وتصفية السلك الأمني من العناصر “غير المنضبطة” والطلب من جميع القوات الأجنبية الخروج من العراق بعد انتهاء معركة الموصل، ولم يحدد الصدر أسماء تلك الدول وهل القوات الإيرانية وأذرعها العسكرية الميليشياوية من ضمنها، كما هل سيتقاطع هذا الطلب مع تصريحات وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس في زيارته الأخيرة لبغداد بقوله إن القوات الأميركية البالغ تعدادها 6000 مقاتل ستظل في العراق لما بعد داعش؟
هنالك فقرات ذات جوانب تتعلق بالنتائج الكارثية التي خلفتها معارك داعش، وهي قضايا النازحين وعودتهم لديارهم، ومن سيعوض الناس عما فقدوه من البشر والسكن والممتلكات في ظل تقارير وثائقية من المنظمات الدولية التي تتحدث عن انتهاكات لحقوق الإنسان، دون قيام الحكومة بإجراء تحقيقات ومحاكمة المجرمين؟ ومن الذي سيقوم بإعمار المدن المخربة، وهل ستقوم إيران بذلك؟ مع العلم أن المملكة العربية السعودية في مبادرتها الأخيرة خلال زيارة وزير خارجيتها لبغداد أبدت الاستعداد لذلك.
مشروع الصدر إذا ما طرح للحوار بين السياسيين العراقيين المخلصين من داخل العملية السياسية وخارجها، ومن دون دوافع حزبية انتخابية يشكل أرضية مفيدة لبلورة مشروع عراقي عابر للطائفية لما بعد داعش.
كاتب عراقي
د. ماجد السامرائي