عودة إلى الينابيع المسمومة / فاروق يوسف
لم تصدر عن النواب الموقرين أصوات تندد بالفقر، بل صدرت عنهم أصوات تدعو إلى الزج بالفقراء في جحيم الفتنة ونار التناحر.
طالب النواب الشيعة في البرلمان العراقي بأن يكون يوم الغدير عطلة رسمية، فرد عليهم النواب السنة بالمطالبة بأن يكون يوم السقيفة هو الآخر عطلة رسمية.
المرجعيات الطائفية المتناقضة في نظرتها إلى التاريخ واضحة في المطلبين، غير أنهما يصدران من نبع مسموم واحد هو الفتنة. فهل بات تكريس روح الفتنة مطلبا شعبيا لكي يتصدى النواب لمهمة تنويع مفرداته؟
يُقال إن العراقيين شعب متدين. وهي صفة غير خاضعة للجدل. ذلك لأن التدين وعدمه صفتان شخصيتان لا علاقة لهما ببناء المجتمعات الحديثة القائم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين الأفراد بدءًا من حق المواطنة وواجب احترام القوانين.
وإذا ما عدنا إلى صفة التدين فإن مناسبتين تاريخيتين مثل يوم الغدير ويوم السقيفة لا علاقة لهما بتدين الفرد. ذلك لأنهما ليستا مناسبتين دينيتين كالإسراء والمعراج مثلا، وليست لهما صلة بحياة الرسول الأعظم مثلما هو يوم ولادته. لذلك فإن العودة إليهما هو أمر مختبري من اختصاص المؤرخين الذين أشبعوهما بحثا وتحليلا.
على صعيد قانوني فإن النواب العراقيين يمارسون نوعا من الاحتيال والتضليل حين يهدرون أوقاتهم التي يبدو أنها ليست عزيزة في الدخول إلى متاهات التاريخ. فهم لا يبيعون الأوهام في سوق مضطربة فحسب، بل يرفعون عن أنفسهم كذلك عبء أن يكونوا صوتا لمن وهبوهم أصواتهم الانتخابية.
أولئك النواب في حقيقتهم لا يمثلون جهة أو طرفا من الشعب، بقدر ما يمثلون الأحزاب والكتل السياسية التي حملتهم من بيوتهم المتواضعة إلى هذا المنصب الرفيع ليكونوا واجهة للفرقة والتشتت والاختلاف الذي يدفع الشعب ثمنه تناحرا وكراهية وبغضا وحرمانا من الخدمات والوظائف.
فمجلس النواب العراقي لم يشهد عبر ثلاث دورات من عمره طرح مشاريع وقوانين تتعلق بالخدمات التعليمية والصحية والأمنية والثقافية وبالصرف الصحي وسواها من مفردات البنية التحتية المدمرة تماما.
لم يتصدّ المجلس لمهمة محاربة الفساد أو الحد منه إلا بطريقة كيدية، هي انعكاس للحروب الصغيرة المشتعلة بين مكوناته السياسية. لم تصدر عن ذلك المجلس تشريعات تعيد الحياة إلى مجاليْ الزراعة والصناعة اللذين صارا جزءا من الماضي، يوم كان العراقيون يعملون بجد من أجل حماية أمن بلادهم الغذائي.
لم تصدر عن النواب الموقرين أصوات تندد بالفقر، بل صدرت عنهم أصوات تدعو إلى الزج بالفقراء في جحيم الفتنة ونار التناحر.
هل يحتاج العراقيون إلى عطل رسمية مضافة، وأكثر من ثلثهم قد وقع تحت خط الفقر في ظل غياب كامل لمخطط اقتصادي ينتشل البلد من هاوية الإفلاس التي تسببت فيها سياسات وضعها لصوص وقطاع طرق ومنتهزو فرص مقنعون بوجوه سياسية متشددة في طائفيتها؟
وقد يكون مناسبا هنا التذكير بأن عدد الأيام التي يتوقف فيها العمل في العراق بسبب المناسبات الدينية هو أكثر من عدد أيام العمل في السنة الواحدة. وهو ما حوّل حياة العراقيين إلى ملهاة كاذبة يقع جوهرها في مأساة تضرب بقوة مناطق عديدة من مصيرهم البشري.
ولهذا يمكنني القول إن أعضاء البرلمان العراقي إنما يُمرّغون الأصوات التي رفعت من شأنهم حين انتخبتهم بوحل خيانتهم للمسؤولية حين يشغلون وقتهم في تصنيع وإنتاج أسباب جديدة للفتنة الطائفية.
لقد انتخبوا من أجل أن يكونوا ممثلين للشعب، حاملي طلباته ومنفذي إرادته ومدافعين عن حقه في حياة حرة كريمة، وهو ما يقع خارج مفهوم اللعبة السياسية في العراق ولا ينسجم مع وظيفة السياسي وفق المفهوم العراقي الجديد.
فاللعبة السياسية هناك تقوم في جوهرها على أساس الإبقاء على الأزمات من خلال تشييد دروب جديدة في متاهة لا يأمل أحد في أن يخرج منها العراق في الوقت المنظور سالما. ما من شيء يوحي بذلك الأمل.
كاتب عراقي
فاروق يوسف