العراق والذبح الإيراني الحلال على جسر الجمهورية / حامد الكيلاني
العبادي ومن معه من قادة حزب الدعوة والأحزاب الطائفية الميليشياوية التابعة لإيران، وصلوا إلى قناعة أن مصيرهم هو جزء من مصير النظام السياسي أو المشروع الإيراني في المنطقة.
زعماء وقادة ميليشيات في العراق أعلنوا سابقا وفي أجهزة الإعلام ردا على أسئلة تتعلق باختيارهم الوقوف مع إيران في أي حرب تخوضها في المنطقة ومع أي بلد عربي، ولكي تكون الإجابة قاطعة قال أحدهم، لو وقعت حرب بين إيران والعراق لاخترت القتال مع إيران ضد العراق، أي ضد وطنه الأم.
هذا الاختيار ليس جديدا على الميليشيات وقادتها، فالحرب الإيرانية العراقية كانت حقلا واسعا لتجربة الانتماء إلى الولي الفقيه وهي تعلو على المواطنة والوطن؛ وهم فعلا قاتلوا ضد جيش البلاد التي يحملون جنسيتها وفيها مساقط رؤوسهم وسيرة آبائهم وأجدادهم، لكنهم حملوا البنادق وأطلقوا النار باتجاه مواطنيهم وساهموا مع الجلادين في تعذيب الأسرى العراقيين وإهانتهم وقتلوا العديد منهم.
بعد الاحتلال حضر إلى مكتبي الصحافي في بغداد بعض هؤلاء، من مسؤولين وإعلاميين، وبدت عليهم الثقة المفرطة بالحديث عن الفوارق والاختلاف بين المذاهب في وقت كان فيه العراقيون يدشّنون باستغراب ألف باء الطائفية وباستحياء وحذر من الإدانة والرقيب الوطني الداخلي.
أحد الزائرين أسهب في وصف العمليات العسكرية والهجوم مع مجموعته على أحد الألوية في قاطع مدينة بدرة التابع لمحافظة الكوت، مسترسلا في كيفية إلحاق أكبر الخسائر البشرية باللواء العراقي، حتى أنه وقف في الغرفة ليؤكد حماسته وعدم نسيانه لتلك الليلة بسبب مقتل صديقه الحميم أثناء الانسحاب وكيفية إخلائه إلى العمق الإيراني، ومع تأثره الحقيقي سالت الدموع وسط محاولات التهدئة من مرافقيه.
السؤال الذي كان موجها لي ودون أن ينتظروا مني جوابا: هل رأيت أعظم من هذه التضحيات والبطولات؟ عندما هدأ قليلا سألته عن تاريخ تلك العملية التي قتل فيها صديقه؟ قال في العام 1989، أي في العام الذي تلا وقف إطلاق النار بين إيران والعراق، أي بمعنى أدق أن تلك الميليشيات كانت تخرق القرارات الدولية المتعلقة بوقف الحرب والمناوشات على الحدود؛ وإن ذلك اللواء العراقي لم يكن على أهبة الاستعداد للقتال، وإنما يمارس واجباته الاعتيادية في حالة ما بعد وقف إطلاق النار، ولم يتوقع أي هجوم من الجبهة الإيرانية؛ لكن ما رسخ واقعة الحديث هذا في مخيلتي هو مقتل ضابط في الجيش العراقي بذات الزمان والمكان كان برتبة عقيد أو بالأحرى بـ”رتبة صديق” لن أنساه.
المثال المذكور يساعدنا في فهم التخبط العقلي بين المبادئ الوطنية التي تتربى عليها شعوب العالم ومنها شعبنا، وبين من يعتقد أن قتل أي عراقي يؤدي ولو على الأقل واجبه العسكري ضد إيران، ونقصد هنا تحديدا إيران بالنظام السياسي لولي الفقيه، هو جزء من الدفاع المقدس عن الولي الذي تعود إليه الوصايا الطائفية ولزاما على الجميع الالتزام بها حتى لو كانت ضد انتمائهم الوطني الذي يمثله العراق في مثالنا.
لكن في هذا الميزان كيف لنا أن نتدبّر غيبوبة حامي الدستور بمنصبه كرئيس لجمهورية العراق وهو يصطف إلى جانب التدخل الإيراني في العراق، عندما يقول إنه لا يجوز لأحد الإدعاء بأن وجود خبراء إيرانيين غير قانوني، وأن وجود قائد فيلق القدس قاسم سليماني في العراق هو وجود قانوني أيضا وهو صديق لساسة العراق، على حد وصفه، وتحدث عن الثقافة المشتركة والحدود الطويلة بين البلدين مع إضافة بضرورة التطبيع بينهما.
مأساة كبيرة أن نخوض في عمق العلاقة بين الرئيس فؤاد معصوم والنظام الإيراني لأن ذلك سيبتعد بنا إلى الشأن الكردي والصراع بين الأحزاب في الإقليم وتاريخه. ما يهمّنا أنه يُجمِع على صداقة ساسة العراق لقاسم سليماني. لم يقل لنا أي ساسة وضمن أي فصيل وإذا كان كل الساسة أصدقاءه قولا وعملا، فالعراق إذن دخل منطقة منزوعة تماما من الحس الأمني بالنأي عن الصراعات القادمة، ونعني به مؤشرات التصعيد بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران.
أما ضرورة تطبيع العلاقات، فأي إنسان بسيط في العراق يعرف أن أي زيادة في نسبة التطبيع تعني فقط إعلان معصوم شخصيا أن المرشد الإيراني هو مرشد المنطقة الخضراء في بغداد بمرسوم جمهوري يشبه وظيفة إصدار مراسيم الإعدام والتوقيع عليها، ولو أن حكومة حزب الدعوة هي حكومة استبدلت التسلل من خلف الحدود لقتل العراقيين إلى التسلل بأوامرها وسلطتها من خلف أسوار المنطقة الخضراء وقتل العراقيين تحت كل الأسباب والذرائع، وجسر الجمهورية السبت الماضي شاهد على ما نقول.
حيدر العبادي من جهته ربما يعتقد أن الأميركان لا يدققون أو يتابعون انحيازه الواقعي إلى إيران، أو حياءه وخجله من المرشد الذي يُعتبَر الأب الروحي الذي لا يرد له طلب، كما أسلفنا في تفضيل الميليشيات لإيران على العراق في حالة الحرب، فما بالنا بحالة اللاحرب أو حالة قرع أجراس أو أصداء قرع طبول بعيدة لنزاع لم يتبلور بعد.
العبادي يستثمر في لا سيادة الدولة العراقية ونظرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب له ولحكومته بما أوقعه في حيرة العشق الممنوع مع أميركا وبين العشق الحلال مع إيران؛ فالشيطان الأكبر عندما قال للعبادي أثناء زيارته لأميركا عام 2015 إن قاسم سليماني عليه علامات استفهام من الإنتربول وهو ممنوع من التنقل عبر الحدود، أجاب العبادي بأن وجوده خطأ غير مقصود؛ وعندما عاد إلى بغداد عادت معه صداقته مع قاسم سليماني كباقي ساسة حزب الدعوة.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتصل هاتفيا برئيس الوزراء حيدر العبادي قبل أيام وصدر كالمعتاد بيان حكومي أميركي وبيان حكومي عراقي، في البيان الأول إشارة إلى أن كليهما تحدث بشأن الخطر الذي تشكله إيران على المنطقة برمتها، أما في البيان العراقي فقد تم رفع الفقرة الخاصة بالخطر الإيراني. العبادي ومن معه من قادة حزب الدعوة والأحزاب الطائفية الميليشياوية التابعة لإيران، ومعهم الحمقى الفاسدون المأجورن إلى إيران كذلك، وصلوا إلى قناعة أن مصيرهم هو جزء من مصير النظام السياسي أو المشروع الإيراني في المنطقة.
على صعيد إدارة الدولة، وحسب مؤشر رصد الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية للعام 2016، العراق من بين الدول الأكثر فسادا في العالم؛ وتحضرني ضحكة وليست ابتسامة لصديق صحافي مخول بالاتصال مع عدد من المسؤولين والبرلمانيين للسؤال عن كشف ذممهم البرلمانية، وهي موجة نزاهة تنتاب الشارع العراقي مع قرب كل انتخابات طائفية، أقصد نيابية، كانت الإجابة لجميع من سمعتهم “تم تسليم كشوفات الذمة المالية وهي لا تتعدى البيت القديم للعائلة والراتب الشهري وبعض المساعدات من الداعمين للحركة أو الحزب من أصدقاء تجار”. هكذا هو الحال في العراق تحت الطاولة أو فوقها، وإلا ماذا نسمّي دولة العراق؟ دولة فيها رئيس الوزراء لا عمل له إلا فتح التحقيقات بمن يقتل الناس في المدن أو في التظاهرات، والإجابة جاهزة “مندسون” دولة اللادراية واللامعرفة واللجان والملفات والاختطافات والاغتيالات والإرهاب المتعدد الهويات، والهوس الإيراني.
رؤية 2020 للأمن القومي الأميركي لصاحبها مايكل فلين، بتاريخه في الاستخبارات العسكرية الأميركية وتجربته في أفغانستان والعراق، والذي يجاهر بأن إيران أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم ويصر على مواجهتها وإيقاف تمددها؛ والرؤية الأميركية للمنطقة وتأكيد ترامب للعبادي الالتزام بشراكة “طويلة الأمد” بين أميركا والعراق، هي بمثابة طُعُم لرغبات وتوجهات وحسابات السلطة في العراق بطابعها العام في الانقسام الطائفي وصراع النفوذ والمصالح، وتاريخ الإجرام للأحزاب والميليشيات الإيرانية في العراق، وفي ما بينها أيضا، دليل دامغ على أن العراق ذاهب إلى حرب جديدة بالإنابة يدفع ثمنها كالمعتاد من دماء أبنائه التي لم تعد تهتز لها ولو أوتار حنجرة في ضمير المجتمع الدولي.
علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني، يقول إن على أميركا مغادرة المنطقة لأنها دولة مكروهة. السؤال كيف ستتعامل الحكومة العراقية مع دولة تعتبرها إيران مكروهة؟ في وقت صدرت التوجيهات إلى فصائل إيرانية بالتهدئة وهي أساليب استخباراتية لتجنيد قوى لما بعد الاصطدام، وهي قوى تتلاعب بالسياسة كالقمار، لضمان استمرارها كنواة قابلة للنمو في الظروف الصعبة. فصائل أخرى أخذت بالتصعيد وهي سرعان ما تنتحر أو تذوب أثناء الاصطدام وعلى الأغلب هي من العراقيين؛ العراق ألا يبدو في أيامنا هذه مشدودا بين كتل متحركة تسحب كل منها باتجاه؟ ألا يذكرنا هذا المشهد بافتراس العراق الأسير؟
كاتب عراقي
حامد الكيلاني